في معرض الكتاب الفرنكوفوني

لم يعد صغيراً، ولكنه ليس شاباً بعد. يقف ابن الأربعة عشر عاما أمام رفّ القصص المصورة. يمسك كتابا يطغى على غلافه وظهره السواد. كأنه باختياره هذا الكتاب تحديدا، يقف عند حافة النضوج، بين الطفولة وواقعية الحياة.
على غلاف الكتاب الفرنسي ثلاث كلمات: "الله إذا تجسّد". يفتح الكتاب بحشرية. ربما يتوقع أن يتعرف، أخيراً، على شكل الله الخارجي. لا يكتفي بالرسومات، بل يتصفح الكتاب ويقرأه. ترى ماذا عند الله ليقوله داخل كتاب قصص مصورة على رف في "معرض الكتاب الفرنكوفوني العشرين"؟
في إحدى الصور التي تتخذ مساحة صفحة كاملة، يظهر رجل يبدو أنه مراسل صحافي، يحمل الميكروفون بيد ويشير بالأخرى إلى ناطحة سحاب، ويقول: "هنا، في واحد من أعلى أبراج المدينة، يقع أشهر مكتب محاماة مكلف إدارة شؤون ومصالح الله".
في صورة أخرى على الصفحة التالية، يسأل أحد المارّة بجانب البرج: "آه، مملكة الله. هل كل شيء على ما يرام هناك؟".
يترك الشاب مملكة الله، ويعيد الكتاب إلى الرف. ربما فشل الكاتب بتصوير الله كما أراد الشاب له أن يكون.
ينتقل إلى رفّ آخر. يحمل كتابا أبيض، كتب عليه بالأسود والفضي: "بإمكانكم أن تصبحوا من تريدون".
يختلف الكتاب الأول عن الثاني اختلاف السماء عن الأرض. يحمل الشاب الكتاب ويذهب به بعيدا. سوف يبتاعه. سيدع الله في السماء، وسيقرأ كتابا يشرح له كيف يصبح ما يريد.
في الكتاب صفحتان حمراوتان كتب عليهما بالخط الأبيض العريض: "أن تفشل. أن تفشل أيضا. أن تفشل بشكل أفضل. – صمويل بيكيت".
***
يستند شاب عشريني على عمود. يتصفح كتاب قصص مصورة عن بيروت في التسعينيات.
يرتدي جينزا عتيقا، وكنزة سوداء شفافة. شعره أشقر، وذقنه أيضا.
في صفحة من صفحات الكتاب الأولى، يظهر شبان ثلاثة. أحدهم لبناني والآخران فرنسيان. يتعجبان لخوض صديقهم اللبناني الحرب لسنتين. صديقهم اللبناني قاتل في صفوف إحدى الجبهات. يسألانه بهدوء عن الدافع وراء خوضه الحرب، لكنه لا يجيبهما بالهدوء نفسه.
– "برونو! عندما كانت بلادك مجتاحة في أربعينيات القرن الماضي، ماذا كنت لتختار؟ أن تقاوم أو أن تختبئ؟".
– …
– "عندما تكون بلادك محتلة، ألمان، يهود، فلسطينيين… لا تفكر إلا في الدفاع عنها. هذا كل شيء".
المفاجأة الثانية لدى الشابين الفرنسيين هي ردة فعل صديقهما.
كيف يسأل عن الحرب، بهذا الهدوء، من لم يعايشها؟ أو من لا يعاني من آثارها المديدة اليوم؟
كيف يتكئ شاب أوروبي على حائط في معرض الكتاب في بيروت، ويخال له أنه سيكوّن صورة عن الحرب اللبنانية إذا قرأ كتاب قصص مصورة عن الحقبة؟
على طاولتين مجاورتين، الكل منهمك ببيروت: "بيروت، وكأن النسيان…"، "في قلوب بيروت"، "أسرار حرب بيروت".
كيف ذلك والحرب كانت علنية لدرجة الوقاحة؟
***
في زاوية أخرى، امرأة متشحة بالسواد. لباسها لا يجزم بأنها في حداد. ربما كان الأسود مزاجها اليوم.
تحمل كتابا صغيرا تغمره بيديها: "302 وسيلة متطورة لدفع الرجل إلى الجنون".
في الفهرس: "نشوة الحب"، "فن الإغراء"، "ألعاب العشق"، "العاهرة المقدسة"، "طقوس آسرة".
تنسى المرأة المنهمكة في القراءة أن بإمكانها شراء الكتاب. يبدو عليها أنها تريد أن تلتهمه قبل أن يسرقه منها أحد. ترى هل سرق أحدهم منها من تقرأ لأجله هذا الكتاب؟ هل ينجح كتاب صغير في ترميم ما لم يتمكن منه لا الكلام ولا الغزل؟
في الصفحة الأولى: "من أنت؟ مارلين مونرو، كليوبترا، أو بيرتني سبيرز؟".
لا. لن تشتريه، ستقرأ صفحة واحدة بعد قبل أن تعيده إلى مكانه:
"الدخول في مشهد الحب بعمق إلى أن يختفي كل الممثلين.
فيما تحبون، أصبحوا أنتم الحب.
فيما تغازلون، أصبحوا أنتم الغزل.
فيما تقبلون، أصبحوا أنتم القبلة. – شيفا"
هذا كل ما ستحمله معها الليلة إلى غرفتها. إما أن تصبح الحب، وإما أن تصبح النوم.
***
على رفّ قريب رزنامة فيها صور لمارلين مونرو. صورة لكل شهر. رزنامة أخرى فيها صور للنجمة التي توفيت العام الماضي أيمي واينهاوس. صورة لكل شهر أيضاً. رزنامة فيها صور لرجال وسام، سيارات من الطراز القديم، قطط بفرو كثير وعيون ثاقبة، أميرات منسيات أو غير معروفات.
ترى هل تصبح أيام عاشق مارلين مونرو أجمل إذا ما تأمل صورتها كل يوم في الرزنامة؟
على الأغلب، لن يتغير شيء. تماما كما سيبقى الشاب الذي سوف يصبح ما يريد، يوماً ما، حائرا بين الأسود والأبيض، كما سيبقى الشاب الأوروبي جاهلا بتفاصيل الحرب اللبنانية، كما لن يصلح كتاب صغير علاقة المرأة بحبيبها.
ولكن رغم واقعية الأشياء، من الجميل أن يفتح عاشق مارلين مونرو عينيه صباحا على صورتها. من الجيد أن يتأرجح الصبي قليلا قبل أن يرسو على برّ. من المفيد للأوروبي أن يقرأ عن الحرب اللبنانية. وربما تتمكن المرأة من دفع حبيبها إلى الجنون، بطريقة أو بأخرى.

يفتح «معرض الكتاب الفرنكوفوني في بيروت» أبوابه لغاية الرابع من تشرين الثاني في الـ"بيال"، في وسط بيروت.

السابق
نصائح لإطالة عمر بطارية الهاتف
التالي
ثلاثة مواقف تُبقي تفهّم أميركا لميقاتي!