مساحة الحكمة.. في اللحظة الحاسمة

نطوي العمر عبر جنون المسافات المتغاوية على مراح السنين، نحلم بالسكينة وهدوء البال، وجمهورية تشبه إلى حدّ ما الجمهورية الفاضلة، على الرغم من استحالة الكمال حيث هو لله وحده، مع كلّ هذا، يحقّ لكلّ مواطن التوجّه نحو الخيارات الصائبة، المدجّنة تحت راية الحرّية، التي قال فيها الخليفة الفاروق عمر ابن الخطاب: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟».
الكلّ يعلم علم اليقين، حتى أولئك المتمسكّون بما قيل في القرآن، أنّ الله خلق البشر شعوباً وقبائل ليتعارفوا، وأنّ الجدال الذي هو الحوار ما هو سوى هدي مستقيم، نزل به النصّ القرآني القائل: «وجادلهم بالتي هي أحسن». لكن ما رأيناه في الناس، في أثناء تشييع اللواء وسام الحسن، وما أعقبه من حوداث مخلّة بالأمن، أمن الوطن والمواطن على حدّ سواء، جعل البوصلة الوطنية في حالة انحراف إلى الغوغائية المركّبة التي دعا إليها البعض، ممّن يدّعون التفوّق في منهاج العلوم السياسية، وهم أبعد ما يكون عنها لأسباب عديدة، منها: أنّ اللواء الحسن موظف في الدولة اللبنانية وبالتالي يخصّ الوطن وعائلته، ثم إنّ المواطنين اللبنانيين الذين استشهدوا وجرحوا ودمّرت منازلهم ومحالهم التجارية من جرّاء الانفجار اللعين هم أبناء الوطن أيضاً، لذلك، لا يجوز الكيل بمكياليين حين تحدث الواقعة الأليمة، على اعتبار أنّ الوطن هو المنهزم في تلك اللحظات وهو المتضرّر الأكبر. ولا يجوز مطلقاً استغلال الحدث، لغايات في نفس يعقوب ليس من السهل التفلّت من عواقبها الوخيمة، علماً أنّه يجوز العمل على حلّها بالمفهوم السياسي، حيث أنّ النظام الديمقراطي البرلماني المتعارف عليه في لبنان يراعي هذه المسألة الخلافية في وجهات النظر أيّاً كانت مضامينها، وبالتالي يبقى الحوار الطريق الأصوب لمعالجة القضايا كلّها، عبر أساليب ومفاهيم لا تلحق الضرر المادي والجسدي بالناس، أيّاً كانت طبقاتهم الاجتماعية والوظيفية والمسؤولة، لأنّ الناس سواسية كأسنان المشط حين تحلّ الساعة، حيث لا فرق بين غنيّ وفقير، ولا في الرتب والمراتب، لأنّ الأخلاق الإنسانية بما تتضمّن من صفات الوفاء والعدل والتسامح، هي الحدّ الفاصل بين الخير والشرّ، وهي التي تؤمّن للإنسان حياته ما بعد الموت.
هنا، أخاطب أولئك الذين يرفعون الدعوات باسم المذاهب الدينية والطائفية البغيضة، لقتل الناس والتخريب والتدمير عبر التفجيرات المدروسة سلفاً، التي لا تنال من يقع عليه العقاب فقط من شياطين الكون، بل تأخذ الأبرياء إلى حتف مرسوم بدقّة في دوائر القرار العالمي.
ما يؤسف له أننا في لبنان نعيش القلق مما سيأتي به الغد، فكلّ يوم يمرّ ونحن أحياء، يدفعنا إلى الظنّ أنّ الشمس ما زالت باقية في سماء الوطن، وأنّ جدائل الخير ما زالت مشكوكة على ساحاته والتلال. لكن ماذا يخبّئ القدر؟ ماذا في جعبة الكبار؟ هل أصبحت المطارح الآمنة أسيرة الخلافات والمشاكسات والقرارات السياسية الشخصانية؟ هل أصبح الوطن وناسه رهائن مزاجية من يبغي السلطة بدكتاتورية منظّمة شعارها «أنا أو لا أحد»؟ ثم أَلَم ينصّ الدستور اللبناني ووثيقة الطائف على تبادل السلطات؟ وهل الموقع أيّاً كانت هويته المذهبية هو ملك للشخص؟ كنت أتمنى لو سمعت طروحات تقنعني كمواطنة، منها مثلاً ما عجزت الحكومة خلال فترة عملها عن تأمينه للمواطن، كسلسلة الرتب والرواتب لموظفيها ومتقاعديها، وذلك عبر الضرب بيدٍ من حديد على كلّ من يسرق أموال الدولة، خصوصاً المشاعات والأملاك البحرية. هنا تكون المعارضة جزء من هموم الناس، وسكينة لمصائبهم المتفاعلة صعداً في تأدية الضرائب اللامنطقية أو الغلاء الفاحش أو سياسة الكيل بمكيالين في تطبيق القانون، فكيف يجوز مثلاً للنائب الذي لا يحضر جلسات المجلس النيابي أو اللجان ألا يعاقب بقطع راتبه مثلاً؟ وكيف يجوز للنائب التدخل في شؤون الدول الأخرى، ارتضينا بنظامها أم لا، علماً بأنّ هذه المسألة تخصّ الحكومة التي تحاسب قانونياً من مجلس النواب! ثم هل يكون الأمن في الوطن بالتراضي؟ وهل تسمح القوانين اللبنانية أن يكون أمن المواطن مسألة شدّ حبال لتنفيذ المآرب الشخصانية باسم الديمقراطية التي تعطي النائب والمسؤول حرية التفوّه بما لا يليق في العرف السلوكي، وبما يؤدّي إلى زرع الفوضى والشغب في أرجاء الوطن؟ ثم كيف تكون حماية من أخطأ القول، بحقّ الناس والوطن ورئيس الحكومة، كائناً من كان، علماً بأنّ النائب سعد الحريري بادر فوراً إلى استنكار الهجوم على السراي الحكومية، معلناً معارضته الحكومة، والعمل من على إسقاطها بالطرق السلمية. هنا يتبادر إلى أذهان الناس من هو المسؤول عمّا حدث؟ وكيف تكون المحاسبة؟ أليس التغاضي عن مقاضاة الفاعل واعتقاله حكمة مصطنعة؟ أين حقوق المواطنين بالأمن والأمان التي يرعاها القانون؟ هل أصبحت مخالفة القوانين حكراً ومشاعاً للبعض؟
السؤال المطروح لدى الناس وبقوّة، إلى متى ستستمر هذه الحالة الغوغائية؟ إلى متى سيبقى أبناؤنا في ديار الغربة؟ إلى متى سنصبر على خزعبلات الطروحات السياسية المدمرة والمهلكة، والمغلفة بالفساد والإفساد وسرقة المال العام التي باتت مكشوفة للقاصي والداني؟ إلى متى يبقى السارق من دون حساب، ثم يحاسب الفقير على سرقة رغيف من الخبز يسدّ به جوع عياله؟ إلى متى سنبقى في لجج الغضب مستنفرين من ثقل الضغائن، وأجفاننا مقرّحة من الغبن اللاحق بكراماتنا، التي نحرص كمواطنين ملتزمين باحترام القانون على عدم سفحها في متاهات الضجيج؟
أسئلة مركّبة لكنها من واقع الحياة المأزوم، فنار الرفض والغضب أصبحت حامية، والناس ليسوا سذّجاً، وليسوا كلّهم على المسار نفسه لمن ولي الحكم والسلطة، هناك الكثيرون ممّن يؤمنون بلبنان الحرّ السيد المستقل، هناك الكثير من المتعلمين والمثقفين والمفكرين الذين لا يعتبرون تمثيلهم قائماً في الحياة السياسية اللبنانية، إذاً على الجميع مراجعة الأخطاء كلّ من زاويته، من أجل الوصول إلى المشترَك الذي يحمي الوطن، وهنا ربما علينا أن نقرأ جيّداً موقف النائب وليد جنبلاط، حين رفض إدخال البلد في الفراغ الحكومي في اللحظات الحاسمة والخطيرة، من خلال نظرة وطنية معمّقة، ظهرت على سطح الأحداث المؤلمة، كي تجعل الجميع يرتدّ إلى مواطن الحكمة ومساحة العقل الذي يحتاجه الجميع في مثل هذه الظرف العصيب.
أخيراً لا بدّ من القول: إن الطريق إلى فهم الذات ربما تكون شاقّة وعسيرة، لكن المطلوب من المسؤول أيّاً كان موقعه أن تكون له لمسة مضمّدة للجراح حين يزنّر الجنون مرابع الوطن.

السابق
مهمة الإبراهيمي
التالي
سمكة قرش على شواطىء صور