لا يختصر الأزمة بُعد واحد

لا يمكن فهم الأزمة اللبنانية في بُعدٍ واحد كما تحاول الأطراف السياسية تقديمها. تجدّدت مشكلة الهوية بمعطيات مختلفة عن تلك التي انتهت بإقرار عروبة لبنان. في الظاهر مسألة هوية، وفي الواقع انضواء الأطراف الداخلية في محاور سياسية خارجية. انفجرت الهوية الوطنية اللبنانية بعد محاولة توحيدها بالانتماء العربي. كأنما العروبة صارت شيئاً من الماضي أمام صحوة الهويات الدينية والمذهبية. الفروقات بين الجماعات هي في مستوى تطورها لا في النوعية والمضمون.
خلال عقدين من تسوية «الطائف» تبدّل الكثير من المعطيات في المدى الدولي والإقليمي والداخلي. لم يعد توزيع السلطة كما جرى الاتفاق عليه يلبي طموحات الفرقاء كلٌ لاعتبارات وعناصر قوة يفترضها جديرة بالحساب.

الدور السياسي الذي باتت تلعبه دول الخليج العربي تبعاً لنفوذها المالي وانحسار الأدوار العربية الأخرى وجد تعبيره في «السنية السياسية اللبنانية». أما الدور الإيراني الذي تمدد في المحيط الإقليمي وكوّن لنفسه «محميات» سياسية ومذهبية استطاع أن يبلور مشروعاً على تماس مباشر مع إسرائيل والغرب الأوروبي والأميركي ويقود معسكراً عربياً ولو كان من «الخوارج العرب».
انهارت فكرة الوطنية اللبنانية القائمة على الحياد الإيجابي الذي كرّسه «الطائف». كانت الأرجحية السورية السياسية والأمنية في لبنان ثمرة تفاعلات إقليمية مع حرب الخليج الثانية. حين سقطت هذه الأرجحية بعد الاحتلال الأميركي للعراق والاشتباك الدولي والإقليمي اشتد النزاع على لبنان وتغيّرت وسائل التعبير وأدواته وأشكاله وتظهّرت أكثر صورة القوى الطائفية والمذهبية ومستلزماتها من العنف والسلاح والإيديولوجيا. سقط التعايش المسالم بين وظيفة سلاح المقاومة ووظيفة النفوذ الخليجي الاقتصادي.

ليس مهماً كيف تعبّر القوى السياسية عن هذا المأزق، فالجميع مدرك أن الشراكة قد انفصمت، والعقد الرضائي انحلّ على وقع العنف المتبادل المعنوي بداية ثم المادي.
كان الاعتراض على السياسات الاقتصادية المتضمنة شكلاً مهماً من السلطة ضعيفاً بين القوى الفاعلة، ومثله كان الاعتراض على السلاح. هذا التواطؤ الذي سيطر عقدين على البلاد وأطاح عملياً بكل الأصوات والقوى والتيارات الوسطية انكسر مع المتغيّر الدولي الذي سحب الشرعية عن سلاح المقاومة وعن دور سوريا الإقليمي ونفوذها في لبنان.

لم تكن معادلة الصراع داخلية، ولم تكن حسابات الأطراف «لبنانية» بهذا المعنى. في مواجهة العنف الذي مارسته سوريا على لبنان أولاً بفرض إرادتها الطاغية من خلال التجديد للرئيس إميل لحود، وفرض حكومة موالية، واستخدام الأمن ثم مسلسل التفجيرات والاغتيالات، كان هناك ضغط «المجتمع الدولي» والقرار 1559 ثم الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز 2006. ومقابل نفوذ السلاح أغرقت البلاد بالمال السياسي الخليجي الذي فاق المليار دولار في انتخابات 2009. وفي الخامس من أيار 2008 كانت هناك محاولة فاشلة لإحداث مواجهة تستدرج دعماً دولياً وإقليمياً، وكانت ردة فعل أكدت المؤكد من أن السلاح، أي سلاح خارج منظومة الدولة ووحدة قرارها، هو جزء من أدوات الصراع على السلطة.

إلى هذه التناقضات وفدت عناصر إقليمية جديدة جاوزت الأهداف السابقة. فلقد صار لإيران وسوريا قاعدة مادية ذات شرعية غير لبنانية مصدرها الصراع بين هذا المحور والطرف الآخر الإسرائيلي الأميركي الخليجي وأخيراً التركي. ولم يتردد هذا المحور الأخير في بناء قاعدة مادية في شمالي لبنان على أساس إقامة توازن سياسي مذهبي، صار مع الأزمة السورية كذلك جزءاً مباشراً من عناصر النزاع الإقليمي.
ولكل من هاتين الدائرتين عناصر تبرير داخلية وخارجية. في الجنوب هناك أمن الناس وكرامتها وتحديات إسرائيل، فلا الدولة جاهزة لأي من المهمتين، ولا امتياز القوة يمكن التفريط به لدولة عاجزة ولنظام إقليمي مفتوح على المزيد من الحروب بأشكال مختلفة. وفي الشمال هناك شعور الناس بأن قوة أي طرف داخلي لها مفاعيلها على حقوقها وكرامتها، وهي قوة لم تحتسب حدود المنافسة السياسية وحدود المشاركة، وهناك البُعد الإقليمي الذي يجعل من رجحان خيار على آخر يعيد «تكوين السلطة» كما هو الحال واقعياً في لبنان وفي سوريا وفي العراق وأي مكان، على نوع من الغلبة طالما صارت العصبيات الطائفية والمذهبية واجهة التعبير السياسي.

وفي حصيلة كل هذه الظروف «السياسية» انهيار لمقومات الصمود الاقتصادي. ومن صالح هذه الطبقة السياسية الاستمرار في عملية النهب المتمادي لموارد الدولة وممتلكاتها لتغذية وتمويل معركتها السلطوية، ومن مصلحتها استخدام حالات الفقر والعوز والحرمان مادة للتجييش واستثمار سوق العمل هذا في مشروع صراع يفترض زيادة اللحمة الطائفية والمذهبية، ويفترض الحاجة إلى وسائل العنف ومادته البشرية. فلا موجب للفصل بين السياسي والاقتصادي، بين الصراع على السلطة وبين تقوية مناعة المجتمع. فإذا كان «الصراع على الدولة» و«على الكيان» و«على الهوية» فمن المنطقي تعطيل استحواذ الطرف الآخر على مقومات الدولة وعلى جغرافية الكيان وعلى رموز الهوية.

تجرّب القوى السياسية أشكالاً من الحروب الأهلية الصغيرة على فرض حاجتها دائماً لرسم حدود بين مواقع النفوذ وإظهار عناصر القوة وإبقاء مادة الاختلاف بين اللبنانيين تحت سقف خطابها السياسي. لكن هذا الاختبار المتكرر لقوة الصدم لا يغيّر كثيراً في توازنات القوى طالما أنها تتم بين جماعتين يتزايد تماسكهما خارج مشروع الدولة. فإذا لم يذهب هذا الصدام إلى حد انفلات العنف الطائفي لجملة أسباب فهو لن يذهب بالتأكيد إلى إنتاج سياسات وطنية تزيد في منسوب الالتفاف حول هذا الطرف أو ذاك. ففي مناخ البلاد خارج الأطر الحزبية والحلقة الضيقة من الأنصار والمستفيدين هناك «قرف» واشمئزاز من هذه اللعبة القذرة التي باتت تحكم الصراع حيث لا من يسمع هواجس الطرف الآخر ولا من يصغي لهموم ومشكلات الناس العاديين المحاصرين بين ناري الفريقين.

فلا اكتساب الثروة المادية واستهلاك مظاهرها، ولا اكتساب تكنولوجيا القوة واستخدام هيبتها يمكن أن يكون معياراً للتقدم. المعيار الأساسي للتقدم هو العقل السياسي العربي، هو التفكير الإنساني في مصلحة حياة أفضل للإنسان. وعلى ما صار مرئياً ومشهوداً لا زال «التخلّف» سيد السلوك العربي، ينتج الاستبداد وينتج الحروب الأهلية وينتج منظومة سلطات، ولا يكتشف معنى الدولة وضرورتها الإنسانية.

السابق
ليبر- ياهو
التالي
الصرفنـد بعـد السيـول: المسارعة بالكشف عن الأضرار والتعويض