قراءة جديدة في المشهد السوري

يتحمّل لبنان عبئاً زائداً، في المخيمات، في المحميّات الجديدة، في النزوح غير المنضبط. أعداد من البشر يتحركون حاملين معهم انتماءاتهم، ومشاريعهم وتطلعاتهم، في ظلّ دولة مستضعفة، ورقابة "عَا قدّ الحال".

والظاهرة هذه لا هي بالوليدة، ولا بالطارئة، بل بالمتنامية والمتكاثرة. هذا على الأقل ما تشير إليه الأرقام التي تتناولها بعض البعثات الغربيّة المتابعة لنشاط "الخلايا المتحرّكة" في لبنان – من جنسيات غير لبنانية – ومشروعها الأمني والسياسي المؤطر ضمن تنظيمات وميليشيات مسلّحة تتحرّك غبّ الطلب، ووفق الحاجة، وطبيعة الهدف.

واهتمّت الدول الغربيّة بالطفرات المسلّحة التي ظهرت في بعض شوارع العاصمة، إثر اغتيال اللواء وسام الحسن، وضبطت الأجهزة الرسميّة سلاحاً مستورداً، بأيدٍ "مستوردة"، لتنفيذ مشروع مستورد عنوانه "الفتنة".

والخلاصة أن التسيّب يستدعي استنفاراً دائماً لحماية السلم الأهلي، ولم تعد المسؤوليّة الأمنية مقتصرة على معالجة الشطط بين اللبنانيّين، بل تخطّت ما هو "بلدي" إلى مراقبة الحمولة الزائدة على الوطن، والتي تفرض أعباء وتحديات بعضها يتصِل بمعالجة ملفات مزمنة على حساب وحدة البلد وثوابته الجامعة.

وتبدو الظاهرة هذه امتداداً لإفرازات الوضع السوري المتفجّر، وقد تأكد للأخضر الإبراهيمي نتيجة مساعيه التوفيقيّة للتفاهم على هدنة عيد الأضحى، بأن هناك من لا يكترث بالمجهود الذي يقوم به.

وذهب إلى مجلس الأمن لينقل الصورة كما رآها وفهمها، ففوجئ بأن البعثة الأميركيّة لدى الأمم المتحدة تملك معلومات عن جهات مسلّحة غير منضبطة "فاتحة على حسابها"، وخارج إطار أي مساءلة أو ملاحقة، هدفها التوتير، وشدّ العصب العنفي، والابتزاز بقوّة السلاح، وممارسة القرصنة والتشبيح، والسعي الدؤوب الى استحداث مناطق نفوذ.

وعندما تمّ الإعلان عن الهدنة، كان واثقاً من أنها لن تصمد لأن هناك أطرافاً خارج دائرة الحوار، لها منطقها وحساباتها الخاصة، وأمامها الفرص السانحة، والظرف المؤاتي لتفرض واقعاً أمنيّاً وجغرافيّاً.

وانقضى العيد، وسقطت الهدنة، ولم يسقط المشروع، وأمام الأخضر الإبراهيمي مهمة جديدة – قديمة بإيحاء أميركي – أممي. كان العنوان سوريا ما بعد النظام، والمرحلة الانتقاليّة.

أصبح العنوان أيّ سوريا ما بعد النظام، ومَن يلجم الميليشيات المنفلتة التي لا يجمع ما بينها إلّا الفكر الأصولي المقفل. طرح الموضوع على موسكو صاحبة التجربة المكلفة في الشيشان، وكان جوابها مبسّطا: "عندما يجتمع المال والعقيدة لدى هذه المجموعات، يصبح الاجتهاد سيّد الأحكام، وهو من يدير اللعبة".

والمجتهدون هنا كثر، هذا يشرّق، وذاك يغرّب، وثالث يدعو الى التطرف بأقصى معاييره، ورابع يحلّل الحلال والحرام، والدم، والرزق، والمهم عنده أن تسير الأوضاع وفق مفهومه، واجتهاده. والجميع يعرف ويقتنع بأن لدى "الجيش السوري الحر" مهمّة وهدف، ولدى المعارضات المتنوعة مهمة وهدف، أما عند الغوغاء المسلّح لا مهمة ولا هدف سوى زرع الفوضى المسلّحة، وتوسيع نطاق انتشارها.

إسقاط النظام، المرحلة الانتقاليّة، والبدائل، كلها شعارات المرحلة، لكن لواشنطن مقاربة جديدة، بدأت تتحدث عن خلايا تتكاثر انطلاقاً من سوريا لتهدد مصالحها في المنطقة. عندما نادت أخيراً بأنّ الاستقرار في لبنان خطّ أحمر، إنما كانت ترفع البطاقة الحمراء في وجه الحمولة الزائدة على السيادة الوطنيّة، وعندما وافقت الأخضر الإبراهيمي على هدنة ولو محدودة لا تتعدى عدد أيام عيد الأضحى، كانت تتوقع الفشل سلفاً، ولكن شاءتها أن تكون مجرد محاولة لكسر القاعدة المتبعة مع الأزمة، ومع النظام، منذ انطلاق الانتفاضة.

لقد اقتنعت واشنطن في نهاية المطاف بوجوب الإصغاء الى روسيا في مقاربتها: "إن البيئة السوريّة لا يمكن أن تستسلم للأخوان، والسلفيّين"، والمعايير الفاعلة والمؤثرة في سوريا مختلفة تماما عن تلك الموجودة في تونس حيث لـ"الغنوشيّة" حضورها التاريخي والسياسي و"الجهادي".

ومختلفة أيضا عن تلك الموجودة في مصر، وفي السودان، وفي ليبيا، وحتى في اليمن، والخلايا التي تتمدد في النطاق السوري لا تعرف حدود دويلة، أو إمارة، أو نطاقاً جغرافياً محدداً، بل هي مرشّحة لتجاوز الحدود المعروفة، او المتعارف عليها، والكيانات، وسائر الخصوصيات، والأمر لا يشكل فقط خطرا داهما على لبنان، والأردن، بل حتى تركيا.

وقد اقتنع حزب "العدالة والتنمية" برئاسة رجب الطيّب أردوغان بـ"أننا عرفنا النظام في سوريا، وعرفنا كيف نواجهه، ولكن ما نجهله تماما هو سوريا ما بعد النظام في ظلّ المدّ التكفيري الذي لا يعرف حدودا، ولا يلتزم معاهدات او تفاهمات، بل يلتزم إرثاً ثقافياً تاريخياً عقائدياً عنوانه: "أنا… ولا للآخر؟!"

السابق
المصرف يشتري
التالي
ليبر- ياهو