“كلّهم مثل بعضهم”

السياسة أمر مربك للسذّج والتبسيطيّين، لا سيّما حين تكون سياسة نزاعيّة على النحو الذي نعيشه في لبنان. ولأنّ تعقيدها يحيّر العقول البسيطة، يأتي "الحلّ" على شكل مساواة بين الجميع: "كلّهم مثل بعضهم… أشرار"، أو على شكل ذمّ السياسة جملة وتفصيلاً: "السياسة ليس لها دين".

هكذا تكون الاستقالة من تعقيد الدنيا.

واللبنانيّ الساذج ربّما كان معذوراً في ردّة فعله المستقيلة هذه لأنّ ألمه طال ومعاناته دامت عقوداً. مع ذلك، فالسذاجة ليست دواء للأمراض لأنّها هي نفسها تجعل الأمراض أكثر فتكاً وأشدّ استعصاء. وهذا فضلاً عن أنّها قد توحي لأصحابها بعلاجات خلاصيّة لا تتّسع لها الأرض ولا يحتملها الواقع. ونعرف من تجارب كثيرة سابقة أنّ خلاصيّين كثيرين ما إن استيقظوا على طبيعة الواقع وممكناته حتّى اتّجهوا إلى أفكار متطرّفة وممارسات انتحاريّة. يصحّ هذا في قطاعات واسعة من الفاشيّين الذين قادتهم إلى الفاشيّة رغبتهم الساذجة في تخليص الحياة من "تلوّث" السياسة والسياسيّين.

مناسبة هذا الكلام ذاك الميل الذي ظهر مؤخّراً في التظاهرة التي أسميت "المسيرة البيضاء"، وفي عدد من الأقوال والكتابات التي توزّعت هنا وهناك. وهو ميل وجد في الهجوم السخيف والصبيانيّ على السراي ذريعته للقول: "كلّهم متل بعضهم" و"نريد الخلاص منهم كلّهم".

وإذا كانت السذاجة ما أملى تلك المواقف، فقد ظهرت إلى جانب السذاجة نيّات بالغة السوء صوّرت حماقة الهجوم على السراي بأنّها "انقلاب"!. هكذا صار من الممكن وضع هذا "الانقلاب" في مقابل غزوة 7 أيّار، وفي النهاية: خير هذا بشرّ ذا.

والمقارنة لا يمكن أن تصحّ إلاّ بقدر ما يصحّ القول إنّ اللواء وسام الحسن وقاتله شيء واحد، أو تشبيه القوّة العسكريّة لحزب الله بالقوّة العسكريّة لخصومه، أو تشبيه المشروع الذي ترعاه "المقاومة"، والذي يصطدم بالدولة اصطداماً رأسيّاً، بـ"المشاريع" البلديّة المتناثرة والسخيفة الرائجة في بيئة 14 آذار.

لا، ليسوا كلّهم "مثل بعضهم". هناك، في لبنان اليوم، من يمسك بالسلاح، ومن يقتل، ومن يشرط بسلاحه حياة اللبنانيّين وموتهم. وهذا الخطر لا يوجد إلاّ في البيئة الحربيّة المرعيّة سوريّاً. خارج هذه البيئة هناك القتلى الذين لم يكفّوا عن التساقط منذ 2005 على الأقلّ.

أمّا الإصرار، رغم كلّ شيء، على أنّهم "كلّهم مثل بعضهم"، فليس سوى أقصر الطرق إلى تضييع الحقيقة، وتعزيز القدرة على القتل، وتوسيع المسافة التي تفصلنا عن إقامة مجتمع مدنيّ يستحقّ أن يحمل التسمية هذه.

السابق
طائرات اسرائيلية ألقت أجسام غريبة فوق الغازية وصيدا
التالي
أوباما يحذر مواطنيه من خطر ساندي.. وشركات الطيران العالمية تلغي الاف الرحلات