الحكومة باقية والإتّفاق على بديلة مستحيل

يدرك فريقا 8 و14 آذار أنّ تشكيل الحكومات بعد التوصّل الى وثيقة الوفاق الوطني المعروفة بـ"اتّفاق الطائف" ليس بالأمر السهل في غياب التوافق عليها، لأنّ المبدأ الذي سارت عليه البلاد منذ هذا الاتفاق يقضي بأن تكون الحكومات دوماً حكومات "وحدة وطنية" أو "وفاق وطني" انسجاماً مع حكم الشراكة الوطنية الذي نجم من إناطة السلطة التنفيذية بمجلس الوزراء مجتمعاً وليس برئيسه وحده، بعدما انتزع "الطائف" مقاليدها من رئيس الجمهورية، لتكون سلطة جماعية وطنية تعبّر عنها التشكيلة الوزارية التي ينبغي أن تُمثّل كلّ الطوائف والمذاهب والاطياف السياسية اللبنانية تحت سقف المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، والمثالثة ضمن هذه المناصفة بين الطوائف الثلاثة الكبرى (الموارنة، الشيعة، السنّة) وهي مناصفة تنسحب ايضاً على أعضاء المجلس النيابي، وكذلك على التعيينات في وظائف الفئة الأولى التي ينبغي المداورة فيها بحيث لا تكون أيّ وظيفة منها حكراً على طائفة بعينها.

والواقع انّ الحكومات التي تشكّلت منذ دسترة "اتّفاق الطائف" كانت حكومات وفاق وطنيّ في غالبيتها الساحقة، وإن كان البعض يعترض عليها، خصوصاً على تلك التي تمّ تأليفها في ظلّ الوجود العسكري السوري في لبنان، وحكومة الرئيس نجيب ميقاتي الحالية كان ينبغي ان تكون حكومة وحدة وطنية كما أُريد لها، ولكن كلّ الجهود التي بذلها الرجل وحلفاؤه لإقناع فريق 14 آذار بالانضمام إليها لم تنجح لإنّها اصطدمت برفض هذا الفريق المشاركة حيث سمّاها "حكومة حزب الله حيناً"، و"حكومة دمشق" احياناً، وكان أن جاءت تركيبتها معبّرة عن كلّ ألوان الطيف السياسي الذي شارك فيها.

في الوقت الذي رفع فريق 14 آذار شعار إسقاطها منذ ذلك الحين، ولا يزال يعمل لتحقيق هذا الشعار حتى اليوم. فيما الجميع يدركون أنه لولا خروج رئيس "جبهة النضال الوطني" النائب وليد جنبلاط ونوّابه من فريق 14 آذار الى الوسطية، لا إلى ضفة 8 آذار، لكان عاد الرئيس سعد الحريري الى رئاسة الحكومة مجدّداً بعد إسقاط حكومته باستقالة وزراء المعارضة آنذاك والذين شكّلوا الثلث زائداً واحداً من أعضائها.

والآن وفيما فريق 8 آذار يعترف ضمناً، وأحياناً علناً، أنّ حكومته التي أنجزت ما أنجزته ولم تحقّق بعد كلّ ما وعدت به، يُجدّد فريق 14 آذار معركته لإسقاطها على رغم إدراكه أوّلاً أنّه قد لا ينجح في ذلك، وثانياً أنّ تأليف حكومة جديدة ليس سهلاً، أو أنّ هذه الحكومة قد تأتي نسخة منقّحة للحكومة الميقاتية وبرئاسة ميقاتي مجدّداً، لأنّ جنبلاط أعلن أنّه باقٍ في موقعه الوسطي الراهن يرفض دخول البلاد في الفراغ.

وبغضّ النظر عن قول ميقاتي إنّه كان سيستقيل لو لم يحمّله فريق 14 آذار دم اللواء الشهيد وسام الحسن، فإنّ هذا الفريق يُدرك، كفريق 8 آذار نفسه، أنّه لا يمكن حكومة في لبنان أن تستقيل ما لم يتمّ اتّفاق مسبق على الحكومة البديلة، أو على الاقل على مفاصلها الأساسية، تشكيلة وزارية وبرنامجاً، ولكنْ دون هذا الاتّفاق الآن كثير من الصعوبات في ظلّ الانقسام السياسي العمودي أو الأُفقي الداخلي السائد، وهو انقسام تغذّيه وتعمّقه تداعيات الأزمة السورية وانعكاساتها التي تثير المخاوف من امتدادها الى لبنان. ولذلك لا يمكن ميقاتي أن يستقيل مطلقاً، خصوصا انّه يرهن أيّ استقالة باتّفاق الجميع مسبقاً على حكومة وفاق وطني، ويرفض إدخال البلاد في الفراغ، وهو ما يزال على هذا الموقف ويتمسك به بشدة، ولا يبدو انّه في وارد الانجرار الى لغة التحدّي… فهذه اللغة، في رأيه، وكما يعرف الجميع، لا تبني بلداً هو في أشد الحاجة الى التماسك، او على الاقل الى الوقوف على الحياد، إزاء ما يجري في المنطقة حتى يتمكن من درء أي عواصف يمكن ان تهب عليه، ولذلك كانت سياسة النأي بالنفس الحكوميّة عمّا يجري في سوريا، وعلى رغم ما تتعرض له من اختراقات…

بعض السياسيين يقول انّ العقلانية هي المطلوبة لدى الجميع في هذه المرحلة، فإذا كان هناك شارع يريد إسقاط الحكومة، فإنّ هناك شارعاً آخر في المقابل يتمسّك بها، وهذا الشارع ليس ضعيفاً وهو يلتقي في موقفه، ومن دون اتفاق مسبق، مع المجتمع الدولي الذي هرع عبر سفراء الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن في بيروت إثر اغتيال اللواء الحسن الى منع لبنان من الانزلاق الى الفراغ الحكومي في ضوء تحرّك فريق 14 آذار في الشارع تحت شعار إسقاط الحكومة قبل ان يستدرك الأمر لاحقاً ويعترف ضمناً بسوء التقدير وبخطأ الهجوم على السراي الحكومي الكبير، وعلى ميقاتي الذي لم يُسجّل له منذ تولّيه رئاسة الحكومة اتخاذه أيّ خطوة استفزازية ضد هذا الفريق السياسي، بل إنّ حلفاءَه في الحكومة كثيراً ما دعموا خطواته ومواقفه الوسطية وتعاطفه مع بيئته السياسية والمذهبية لاقتناعهم وإيّاه بوجوب عدم ادخال البلاد في أي فتنة ليست في مصلحة الجميع.

بل إنّ ميقاتي تعرّض للمَلامة على مواقف وقرارات معروفة إتّخذها وخالف فيها حلفاءَه لأنّه لم يرد تحدّي الفريق الآخر، ولادراكه انّ التحدي لا يستدرج إلّا التحدي.

على انّ رئيس مجلس النواب نبيه بري له على الحكومة كمٌّ كبير من الملاحظات، ولكنه يحضّ دوماً على تفعيل عملها وتنشيطه لإقتناعه بأنّ الانجاز يُبطل الاحتجاج ويقوّي من العضد الحكومي، ويفقد الخصوم الحجة لأنّه يعلم بما ما بين ايديهم وما خلفهم. ويُنقَل عن بري أنه مستعدّ للبحث في حكومة وحدة وطنية، ولكنّه يرفض إدخال البلاد في الفراغ.

والقريبون منه يقولون انه مستعد للسير في أي خطوة او مبادرة يمكن ان تساعد على ردم الهوّة بين اللبنانيين، وأن تبدد أي خلاف بين مختلف القوى السياسية، ويرى أنه إذا كان المطلوب حكومة وحدة وطنية فليتلاقَ الجميع للتفاهم وعندها يكون لكل حادث حديث، إمّا إسقاط الحكومة أو إستقالتها بما يُدخل البلاد في الفراغ، فهو أمر لا يمكن القبول به لأنه يَنقُل البلد الى أزمة كبرى.

السابق
جنبلاط يحرق مراكبه السعودية
التالي
واشنطن للأوروبيين: معاً ضد حزب الله