لبنان الشهيد الحيّ.. إلى أين؟

الاغتيالات أبجدية الجبناء، والبحث عن الحقيقة مسألة شائكة في ظلّ الصراع العالمي المستشرس على الساحة الإقليمية والدولية، وحين تقع عملية الاغتيال، تقع الخسارة أوّلاً وأخيراً على الوطن، على الرغم من فداحة الفاجعة، خصوصاً إذا ما تحرّكت العصبيات الطائفية والمذهبية، وطاولت أصابعها النارية ساحات الوطن ودروبه الآمنة.

قديماً، كانت الفروسية صفة القادة والأبطال، الذين حملوا الأوطان فوق مهود قلوبهم كي يرفعوها إلى قمم المجد، أمّا اليوم، فقد أصبحت الفروسية شعاراً للتحريض على اختراق أمن الوطن، واستغلال غباء المواطن المعدم في لحظة تخلّ عن القيم والمبادئ، التي تخلو من الفروسية الموصوفة التي تعدّ صفة الحكماء في الظروف العصيبة، فالنضال الوطني بمعانيه السامية يتجسّد في عملية الذود عن حياض الوطن في وجه الأعداء، والكلّ يعرف أنّ عدوّ لبنان، كما ورد في نصّ الدستور اللبناني، هي الدولة الصهيونية العنصرية التي تحتلّ أرض فلسطين، التي نشهد على إسقاط قضيتها وشطبها من سِجلات التكوين الجديدة للمؤامرة الشرق أوسطية، التي أصبحت الهدف المرتجى لحديثي النعمة في المحافل السياسية، الذين لا يفقهون المعاني الكبيرة، والأهداف المنظورة والمقروءة لاختراع الصهيونية العالمية قضية وعد بلفور، الذي منح أرض فلسطين لليهود الصهاينة، بالتوافق مع الإمبريالية الأوروبية والأميركية، الذين أرادوا أن يجعلوهم حرّاساً لمنافذ البحار بدءاً من قناة السويس، حيث صرّح أحد منظّريهم ماكس نورداو، مخاطباً الإمبرياليين الغربيين بالقول: «تريدون أن نحرس لكم ممرّ قناة السويس في مصر، وأن نحرس لكم الطريق إلى الهند عبر الشرق الأدنى، هذا ما تنتظروه منّا». أمّا اليوم، فالمطلوب هو حراسة آبار النفط والغاز، لهذا أصبحت فلسطين قاعدة للإمبريالية العالمية ولأميركا بالذات، بحيث أصبحت دولة نووية وترسانة أسلحة حديثة ومتطوّرة جدّاً، في الوقت الذي يحظّر على إيران امتلاك السلاح النووي، ومساعدة سورية ولبنان وأيّ دولة من دول الجوار بامتلاك الأسلحة المتطوّرة، كما يحظّر على الجيش اللبناني امتلاكها أيضاً، لهذا ترتفع الأبواق السياسية، المدجّنة أميركياً في لبنان، مطالبة بسحب سلاح المقاومة، وإلّا فالطلاق بالمفهوم اللبناني المستحدث، كما صرّح أحد نوّاب الشمال أمس على إحدى المحطات التلفزيونية اللبنانية.

أليس من العار أن يصبح الخطاب السياسي اللبناني مبنيّاً على مسألة واحدة هي سحب سلاح المقاومة؟ وكيف يسمح لبعض المسؤولين جعل لبنان هو الشهيد عند كلّ حادثة اغتيال يتعرّض لها أحد المسؤولين اللبنانيين؟ وهل تجوز في هذه الحالة الدعوة إلى شقّ الصفوف بعملية تحريض منظّمة، الهدف منها، كما بدا واضحاً للجميع، أثناء تشييع اللواء الشهيد وسام الحسن أنها مبيّتة سلفاً، بل مخطّط لها من قبل من يسعى إلى خراب الوطن، من منطلق و«من بعدي الطوفان». أيّ لغة هي تلك التي سمعناها فوق المنابر التي دعت الشباب إلى الهجوم على مؤسسة حكومية، جعلها الشهيد الرئيس رفيق الحريري صرحاً حضارياً يتباهى به لبنان على مدى الدهور؟ وهل من المفيد الغلوّ في التشنّج ورسم لغة المعارك الضارية والمصيرية من جديد تحت سقف الوطن من دون التفاتة إلى النتائج الموجعة؟
إن البطولة صفة ملازمة لمن وليّ الحكم والأحكام، أكان على العرش استوى، أم كان في بيته مراقباً تحوّلات الزمن وتبدلاته، وتغييرات طقوسه وتسوياته الإقليمية والعالمية، التي بدأت سطورها ترتاح في صحائف الدول العالمية والإقليمية ومصالحهم، شاء البعض أم أبى. فرجل السياسة العاقل الحكيم هو الفارس الشجاع الذي يواجه الخطوب والعواصف، مواجهة الأبطال الواقفين عند خطوط النار، بكلّ حزم فاعل، ويقين يستوفي شروط العقل من حيث التأني والصبر، وعزيمة جبارة قوية قادرة على تجاوز المحن وحيثياتها المدمّرة والمهلكة.

فالمسؤول أيّاً كانت رتبته الوظيفية، رئاسة أو نيابة أو وزارة أو وظيفة أمنية عليا، هو إنسان دخل راضياً مرضياً ملاك الوظيفة العامة، وفي قاموسه يتربّع سجل الأخطار المحدقة به، الذي يستوجب منه الحيطة والحذر والحرص الشديد على الحياة الشخصية، في عالم يعجّ بصراع البقاء، حيث الغلبة دائماً للأقوى، وحيث المؤامرات والاغتيالات تكون من موجبات الحفاظ على القوة الضاربة المتحكمة بمسيرات ومسار الشعوب والأوطان، التي تؤدي إلى قطف الثمار حتى لو كان على بركان من الجماجم. هكذا ارتسم تاريخ القادة عبر العصور، منذ عهد قابيل وهابيل حتى يومنا هذا، فالصراع والحروب والقتل والدمار والغزو المنظم هو سيرة امبراطوريات امّحت ودول كونية استجدت، وقد برزت مساراتها المتبدلة والمتغيرة عبر العصور بكلّ فصولها الخريفية والربيعية، ولا تزال حتى يومنا هذا، حالة قائمة ومستمرة من حيث الصراع الدامي الذي يغلفه الطمع بالغلبة المتأصلة عند من وليّ الأحكام. لأنّ السيطرة على الشعوب وثرواتها وقدراتها البشرية هو الهدف الدائم المرتجى، لهذا بقي الخطر هو الصفة الحادّة والمؤلمة لدى كلّ منعطف سياسيّ.

من هنا، ربما علينا الانتباه بتيقظ لعمليات الاختراق الأمني التي تحدث عادة عند كلّ الدول ولأيّ مسؤول حتى لو كان في بروج مشيدة، بدليل الاغتيالات التي حدثت عبر التاريخ التي طاولت كبار القادة والرؤساء، وما زالت تحدث، خصوصاً في لبنان والعالم العربي، وآخرها اغتيال الرجل الأمني اللواء وسام الحسن.
لكن، لا يجوز مطلقاً، مع كل تأسفنا على أرواح الشهداء جميعهم، من فقيرهم حتى أكبر مسؤول أمني، أن يسعى البعض إلى جعل الوطن هو الشهيد الحي دائماً، وهو الذي يدفع الثمن مع الشعب المسكين! بل من العار الخضوع لما هو مخطط وممنهج بإتقان في روزنامات الإرهابيين، الذين يريدون الشرّ للبنان وناسه الطيبين. إن حالات الاغتيالات كلّها التي حدثت عبر العالم، على الرغم من المواكبة المشدّدة، ومنها اغتيال الرئيس الأميركي جون كينيدي وكل من أنور السادات ورينيه معوض ورفيق الحريري، والقادة الضباط أخيراً في سورية، واللواء وسام الحسن، حيث لم تمنع القدر المرسوم.

فرفقاً بلبنان يا سادة يا كرام، أسقطوا من صحائفكم لغة التحريض والطلاق وعودوا إلى أحضان الوطن، فلبنان كان وسيبقى وطناً لكلّ أبنائه. والشهيد وسام الحسن هو موظف أمنيّ كبير في الدولة اللبنانية، وبالتالي هو فقيد لبنان والشعب اللبناني كلّه، ولا يجوز استغلال هذا الحدث المؤلم والمفجع لتسجيل المواقف المتشنجة التي تودي بالبلد إلى ما لا يحمد عقباه.  

السابق
في خلفية الاغتيال ووقائعه 
التالي
لا دروس مقابل شراء صابون!