استشهاديو المعلومات!

منذ قيام الجمهورية اللبنانية لم يتعرض جهاز أمني لبناني لهذا الكم من الاستهداف؛ في السياسة والإعلام والقانون… والدم. في باقي دول العالم يجَرّم أي قول أو فعل من شأنه ضرب معنويات الأجهزة الأمنية والعسكرية، لكن في لبنان ثمة من يُصفق لمن يتهجم على "شعبة" المعلومات -أهم جهاز أمني، لدرجة إدانة رجل الأمن -صاحب الإنجاز- وصولاً إلى طلب محاكمته… أو قتله. ليس أدل من ذلك على أن "شعبة" المعلومات تضم "استشهاديين" لبنانيين خالصين، ارتضوا العمل -ليس تحت الضغط-، وإنما تحت شبح الموت المهيمن على تفاصيل حياتهم اليومية… هذه هي أوسمتهم التي نالوها قبل أن تُمنح لهم!
 
منذ أن تسلّم اللواء أشرف ريفي قيادة قوى الأمن الداخلي في 28/4/2005 وضع نصب عينيه تطوير قوى الأمن الداخلي، وتخليصها من رواسب الوصاية السورية، ومكافحة الإرهاب، ومواكبة التحقيق الدولي بجريمة اغتيال الرئيس الحريري بصورة فاعلة. على هذه الأسس اهتم ريفي بإعادة بناء قوى الأمن الداخلي عموماً، وفرع المعلومات خصوصاً.
بناءً عليه؛ طلب اللواء ريفي من المقدم وسام الحسن العودة إلى السلك الأمني، بعدما استقال منه نتيجة لمضايقات نظام الوصاية السورية. تسلم الحسن رئاسة "المعلومات" في شباط من العام 2006… وبدأ مشوار الشهادة.

في 4/3/2006 اتخذ مجلس قيادة قوى الأمن الداخلي قراراً بتوسيع عمل فرع المعلومات، بناءً على المستجدات الأمنية في البلاد، لكن الانقسام السياسي في البلد حال دون مواكبة هذا القرار تشريعياً. ثمة من كان ينظر بعين الريبة إلى هذا الجهاز الأمني المتنامي بعيداً عن أذرع الوصاية السورية وحلفائها المحليين… لكن رغم هذا التقصير القانوني – ولاحقاً محاولات ضرب المعلومات من الداخل عبر التأثير على عدد من ضباط مجلس القيادة لطلب تحجيمها-؛ فقد عمل هذا الجهاز الأمني بفعالية، جعلته موضع ثقة التحقيق الدولي… فكان الاستهداف الجسدي الأول.
في 5/9/2006، وبعد نحو سنة على توقيف الضباط الأمنيين الأربعة، للاشتباه بهم في جريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري، استُهدف المقدم سمير شحادة، نائب رئيس "شعبة" المعلومات، والمشرف على التحقيق باغتيال الحريري، على المدخل الشمالي لمدينة صيدا. نجا شحادة بأعجوبة، وقُتل أربعة من مرافقيه، لكنه فقد قدرته على متابعة مهامه الأمنية، نتيجة لحجم الإصابات البالغة التي يعاني منها إلى اليوم في مكان إقامته خارج لبنان.

تحوّل استهداف شحادة إلى دافع إضافي للمضي قدماً في التعاون مع التحقيق الدولي، ومواجهة شبكات الإرهاب المصدّرة من النظام السوري؛ فحققت "شعبة" المعلومات إنجازات كبرى، في مكافحة الإرهاب، والتجسس، وحماية اللبنانيين جنائياً، وتابعت التعاون مع التحقيق الدولي، وسجلت في إنجازاتها؛ اكتشاف منفذي جريمة عين علق بتاريخ 13/2/2007، وتوقيف الفاعلين، وإحباط مخطط "فتح الإسلام" الإرهابي- بالمعلومات والمواجهة العسكرية-، وعمليات هامة أخرى.

ليس هذا فحسب؛ فبعد فترة من التيه في مسارات غير منتجة جنائياً، أيام المحقق الدولي براميرتس؛ أيقنت فرق التحقيق الدولية أن ضابطاً ألمعياً من "شعبة" المعلومات، اسمه وسام عيد، سبقهم إلى حل لغز اغتيال الحريري من خلال تقنية تحليل الاتصالات. عادوا إليه. اجتمعوا به، وفي أثناء توجهه لاجتماعٍ معهم، استهدفه المجرمون بسيارة مفخخة في محلة الشيفروليه في بيروت، في26/1/2008. ما لا يعرفه كثيرون أن الجناة عرفوا أهمية عيد قبل المحققين، فحاولوا اغتياله من خلال تفخيخ باب منزله قبل قتله فعلياً بعدة أشهر. فشلوا في قتله، لكنهم أعادوا الكرة فتحوّل وسام عيد إلى قائد ثانٍ مستهدف في موكب الشهادة.

وكما في الاغتيال السابق؛ لم يثن اغتيال المسؤول عن الوحدة الفنية في "شعبة" المعلومات عن متابعة الإنجازات، فبفضل التقنيات التي أحدثها؛ نجحت "الشعبة" في تحقيق إنجاز غير مسبوق في الصراع مع العدو الإسرائيلي، حيث استطاعت اعتباراً من 11/4/2009 توقيف 31 شبكة تجسس إسرائيلية، لم يبرئ القضاء المختص حالة واحدة منها!
لم يقتصر الأمر على ذلك؛ فقد امتلكت "شعبة" المعلومات جرأة الكشف عن خطف الناشطين السوريين (الأخوة جاسم)، بتورط واضح من السفير السوري وأحد ضباط قوى الأمن الداخلي المفروز للسفارة… لكن العملية التي فاقت فيها "الشعبة" حدود النجاح كانت توقيف ميشال سماحة. لم تترك خطورة ما كان يحضر له سماحة أي مجال للتردد، ولم تدَع براعة "الشعبة" لأي مشكك أن يُظهر مهاراته. وبقدر ما شكّل ذلك تألقاً لوسام الحسن، شكّل إنذاراً له بأن موعد الشهادة قد اقترب، فقد سبق ذلك إرهاصات عديدة!
في الأسبوع الثالث من شهر كانون الثاني من هذا العام انتبه مخبرو "شعبة" المعلومات إلى مؤشرات مريبة في منطقة الأشرفية، حيث مقر قيادة قوى الأمن الداخلي. تقاطعت هذه الإشارات مع معلومات عن تحضير سيارة مفخخة لاغتيال كل من أشرف ريفي ووسام الحسن أو كليهما معاً. في 27/1/2012، وكإجراء وقائي سرّبت "شعبة" المعلومات خبر إحباط محاولة اغتيال ريفي أو الحسن، في "اللحظات القاتلة". كان هذا الخبر بحد ذاته جزءاً من لعبة الكر والفر بين ضباط "الشعبة" والمجرمين، على اعتبار أن خبراً كهذا من شأنه إيصال رسالة إلى الشبكة الإرهابية أن نشاطها قد كُشف وتالياً تجنيب الأشرفية زلزالاً من النار والدمار، بعدما تأكّد لـ "المعلومات" أن الطرق السرية التي كان يسلكها ريفي والحسن، ومكان اجتماعهما قد كشف.

اللافت أن هذه الوقائع لم تكن هي الأقسى على رجال "المعلومات"، وإنما إصرار وزير الاتصالات نقولا صحناوي وقتها على حجب داتا الاتصالات عن "الشعبة"، بحجج سخيفة، كأن مهمته حماية المجرمين لا الأجهزة الأمنية! منذ ذلك الحين تسارعت المؤشرات عن وجود تعقب لحركة الحسن، ما استدعى تخفياً ومواكب وهمية وشققاً مستأجرة في المنطقة لتمويه الحركة.
كثيرون حذّروا الحسن من تبعات توقيف سماحة وفتح كنز المعلومات الذي كان معه، فقد ظن الأخير أن أحداً لا يجرؤ عليه، فكان يسجل لكل الناس كلامهم؛ في الهاتف وفي السيارة، وعلى مدى سنين… المبغضون للحسن هددوه علانية، والمحبون أشفقوا عليه من ثقل الحِمل الذي تقلده، فنصحوه بالابتعاد عن البلد قليلاً.

عندما غادر ريفي والحسن إلى ألمانيا للقاء رئيس مكتب الشرطة الفدرالية يوركي سلكي"؛ عممت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي خبراً تمويهياً حول موعد اللقاء ومدته. كان القصد من ذلك إعماء العيون عن الرجلين أثناء وجودهما في لبنان، قبل موعد عودتهما المحدد وفق الخبر، لكن العيون التي رصدت ريفي والحسن أثناء مغادرتهما من مطار رفيق الحريري كانت تعلم أن الخبر تمويهي؛ فحضّرت سيارتي الاغتيال. وكما في الذهاب كان متعقبو الحسن في انتظاره عند الإياب. في واقع الحال فقد شكّل المطار أفضل مكان لإعادة رصد الهدف كلما فُقد أثره. نجح ذلك مع جبران تويني، ومع آخرين، كما نجح تماماً مع الشهيد وسام الحسن، عند عودة الحسن إلى لبنان مساء الخميس الماضي، حيث كانت في انتظاره سيارتان؛ واحدة في كل طريق محتمل يمكن أن يسلكه على ما ترجّح من معلومات.

صار ثالث القادة المستهدفين من ذلك الجهاز الأمني الرفيع؛ الوسام الحسن. وصل قبل موعده، بعدما ودّع عائلته في فرنسا للمرة الأخيرة. أعطى موعداً لأحد النواب المهددين بالاغتيال ليبحث سبل حمايته… لم يدر أن يد الاغتيال ستسبق الموعد إليه.
فضلاً عما أصاب لبنان كله باستشهاد الحسن؛ فإن لغياب قائد "المعلومات" عن جهازه أثره الهائل على معنويات رجاله، ما حتّم على "القائد الأول" لقوى الأمن الداخلي أن يؤكد لضباطه أن "المسيرة مستمرة، مهما غلت التضحيات"، داعياً إياهم الى أن يحوّلوا غضبهم إلى عزم على كشف المجرمين، ومزيدٍ من ألق "شعبة" المعلومات… وغير بعيد عن ذلك؛ ثمة استشهادي جديد يتقدم؛ على رأس "شعبة" المعلومات، ليخلف الحسن في حماية استقلال لبنان.
  

السابق
الخارجية الاسرائيلية تعرب عن استيائها من زيارة امير قطر الى غزة
التالي
اعتصام أمام منزل ميقاتي في طرابلس.. حتى إسقاط السلاح