وحل المنطقة الذي يُغرقنا

تركيّا والأتراك صاروا، في أدبيّات التهاجي السائد، «عثمانيّين»، كما صارت السعوديّة والسعوديّون، وقطر والقطريّون، «وهابيّين»، وكادت مصر والمصريّون، مع انقشاع موقف الرئيس محمّد مرسي من سوريّة، يصيرون «فراعنة». لكنْ في المقابل، صارت إيران والإيرانيّون «فُرساً» و «صفويّين» و «مجوساً».

وهذا التلوّث في فضاء المنطقة كلّها، وهو عنصريّ طبعاً، ينهض على عمليّة بسيطة في آخر المطاف: يُردّ شعب بكامله إلى ماضٍ إمبراطوريّ، أو إمبراطوريّ متخيّل، ثمّ يُهجى بصفته هذه.

والعمليّة البسيطة تلك تنطوي، فضلاً عن عنصريّتها الصريحة، على خطأين جسيمين: الأوّل، إعلان أصحابها جهلهم الفادح بالتاريخ السابق على الدولة الحديثة بحيث يُقلّص هذا التاريخ، على رغم منجزاته الضخمة، إلى مجرّد شتيمة بذيئة، والثاني، إعلان كلّ من الطرفين أنّ شعوب الخصم ودوله ليست شعوباً ودولاً.

وهذا الميل المسموم ليس جديداً في ثقافة منطقتنا، إذ درجنا طويلاً على إدانة الولايات المتّحدة بصفتها قاتلة الهنود الحمر، كما لو أنّ هذا الحدث حصل يوم أمس الأوّل، فيما هناك جوهر أميركيّ قاتل لا يعدّله الزمان، كما درجنا على اختصار إسرائيل والإسرائيليّة بـ «اليهود» وأسبغنا على التعبير الأخير ما تيسّر من مواصفات سلبيّة. وهذا ناهيك عن مقدّمات عنصريّة صلبة حيال السود «العبيد» يقيم بعض جذورها في تجارة الرقيق الشهيرة.

لكنّ الفارق أنّ ما كان يوجّه لـ «الآخر» قبلاً صار يتّجه راهناً إلى «الذات» بصراحة لا سابق لها. صحيح أنّ الحروب الأهليّة العربيّة لم تبخل بالإفصاح عن هذا التبادل العنصريّ في ما بين «الأخوة»، فسمعنا من اللبنانيّين والسوريّين والفلسطينيّين والأردنيّين، وقبلهم من اليمنيّين والسعوديّين والمصريّين، ما يندى له الجبين. وكانت النزعة هذه قد بلغت، مع حرب صدّام حسين على إيران ثمّ في غزوه الكويت وإبّان تحريرها، ذروة لم تكن مسبوقة حتّى ذاك الحين. مع هذا، فمعظم ذاك التهاجي كان يبقى محصوراً في البلدان المعنيّة بالصراعات الثنائيّة، كما أنّ كثيره ظلّ شفويّاً لا ينقل الإعلام، ولا يعمّم، إلاّ بعضه. أمّا اليوم، ومع الانفجار الإعلاميّ، لا سيّما منه التلفزيونيّ، فصارت اللغة الموصوفة هي الأعلى صوتاً والأكثر انتشاراً بين اللغات السياسيّة الرائجة في المنطقة.

وهذا لئن وشى بالتلوّث العميق الذي يخترق أجسامنا الفكريّة والسياسيّة، نبّه إلى أمرين: أوّلهما أنّ «الصراع على سوريّة»، بوصفه صراعاً على منطقة برمّتها، يملك اليد الطولى في هذه النقلة النكوصيّة المعمّمة. فكيف حين يتقاطع الصراع المذكور مع صعود استثنائيّ في التوتّر السنّيّ – الشيعيّ العابر للحدود؟. وإذا صحّ أنّ لغة النظام السوريّ السبّاقة في إبداعات «العربان» و «العثمانيّين»، تتحمّل أكبر أقساط المسؤوليّة عن هذا الوحل، فإنّ تمادي النظام نفسه في سياسة القتل يوفّر الأساس الموضوعيّ الأمتن لاستمرار التردّي ولتحوّله طبيعة ثانية لشعوبنا. أمّا الأمر الآخر فمفاده أنّ «الأخ» هو الوجه الثاني لـ «العدوّ» تماماً كما أنّ «العدوّ» هو الوجه الثاني لـ «الأخ». وكم هو دالّ أنّ فلسطين التي يُفتَرض أنهّا القضيّة الجامعة بين «الأخوة العرب والمسلمين»، هي أكثر البلدان إنتاجاً للغة يقوم بموجبها «الأخوة في فتح» (في نظر «حماس») بارتكاب ما لا يرتكبه إلاّ «الأخوة في حماس» (في نظر «فتح»). وما دمنا «أخوة/أعداء»، لا أفراداً/مواطنين، وما دامت هذه الثقافة تواكب تبرير التدخّل في بلدان لا تُحترم سياداتها وحدودها، فإنّ الوحل سيمضي في ابتلاعنا تهاجياً وتعفّناً غير محدودين.

السابق
ظهور مسلح في شوارع طرابلس والقوى الامنية طوقت الاشكالات
التالي
أنا إنسان مش حيوان