شرف العين أن تقاوم المخرز!

فريق من اللبنانيين المتهوّرين واللاعقلانيين، يرى أنّ الطائرة «أيّوب» التي أطلقتها المقاومة، تشكّل قوّة دفاع لأنّها تدير ميزان الردع إلى صالح لبنان. وفريق من الحكماء والأشاوس والعقلانيين جدّاً يرى في الطائرة «أيّوب» استفزازاً لـ«إسرائيل» كي تشنّ حرباً على لبنان. وحتّى لا ندين الفريق العقلاني أو الفريق الآخر المجنون والمتهوّر، كما تهور في تموز 2006، أو نتجنى عليهما، تعالوا نقتدي بما حصل في التاريخ القديم الذي تعتزّون به ونعتزّ، ويلقّنوننا إيّاه في المدرسة كما تتعلّمونه أنتم، مع الأسف الشديد والحزن أنّ الملايين الأربعة من اللبنانيين، وهم بقدر ربع سكان مدينة نيويورك أو لوس أنجلس وأقلّ قليلاً من نصف سكان طوكيو، بلغ بهم الانقسام أن صارت مفرداتهم ولغة تخاطبهم هي: نحن وأنتم، ولكن يبدو أنّه لا بدّ ممّا ليس منه بد.

في مرويات التاريخ الإسلامي أنّ قبائل مكة، أو سادتها وأشرافها وزعماءها ـ تماماً مثل القبائل اللبنانية اليوم بكلّ سادتها وأشرافها وزعمائها – اختلفوا حول من يحمل شرف رفع الحجر الأسود إلى مكانه في الكعبة. وكاد البعض أن يستلّ السيوف نخوةً وشهامةً ودفاعاً عن العرض والكرامة، وأخيراً قال أحدهم: «لماذا لا نحتَكم إلى أوّل قادم إلى جوار الكعبة… وافقوا، وصودف، أو هي الإرادة الإلهية، أن كان أوّل القادمين هو الفتى الأمين محمد، قبل أن يتبلغ الرسالة، وقد عرف بأمانته وصدقه وبأخلاقه النبيلة.
طلب أن يأتوه بعباءة كبيرة، فرشها على الأرض ودحرج الحجر إلى وسطها، ثمّ طلب من كلّ قبيلة أن تنتدب رجلاً، ففعل الجميع ما طلبه الأمين، وأمسكوا جميعاً بأطراف العباءة ورفعوا الحجر، ونالوا جميعاً ذلك الشرف.

لسنا اليوم في عصر ما قبل النبوّة، ولكن يمكن أخذ العِبرة ممّ حدث كواقعة في التاريخ القديم. نحن اليوم لا نستطيع أن نوكل الأمر إلى أيّ فتى، ولكن يمكن أن نوكله إلى مجموع الشعب اللبناني، خصوصاً أنّنا جميعاً نتشدّق بالحرّية والديمقراطية ورأي الشعب و… إلى نهاية الكليشهات المعروفة.
لماذا لا نحتكم جميعاً إلى الشعب ونتفوّق حتّى على الإغريق الدهاة الذين اخترعوا مصطلح الديمقراطية فنقلوا العدوى إلى ألسنة دعاة السياسة قبل قلوبهم؟ المسألة بسيطة مثل بيضة كولومبوس حين ينعقد العزم وتصفو النوايا.

يمكن تشكيل لجان للاستفتاء، لا تضمّ سياسيين ولا أحداً من أقربائهم وأتباعهم، نوّاباً ومسؤولين في الدولة أو طامحيين ليكونوا مسؤولين من أَكَلَة الجبنة، ولا تضمّ أحداً من رجال الدين. نختار لهذه اللجان مَن نتّسِم فيهم البراءة وعدم التلوّث السياسي بعد، نستعين بطلّاب الجامعات غير الحزبيّين طبعاً وغير المنغلقين والمتعصبين والمنحازين.

مهمّة هذه اللجان أن تدور في القرى والبلدات وفي المدن والضواحي وتطرح أسئلةً محدّدةً: هل ترى في عملية الطائرة «أيّوب» استرداداً للكرامة وموضع عزّة وافتخار وقوّة ردع لحساب لبنان بكلّ مَن فيه، أم تَرى فيها تهوّراً ومغامرة تستجرّ اعتداءات «إسرائيلية»؟ وهل من يدافع عن كرامته وكرامة بلده يتردّد أمام التضحيات والمفاجآت مهما كانت ويحسب العملية بميزان الربح والخسارة؟ أم أنّ حكمة شيوخ السياسة تقتضي بأن نحسب حسابات المنهزم قبل أن يدخل المعركة لأنّه يريد لنفسه الهزيمة ولا يرى إلّا الخوف والتردّد؟ فيستدعي الأمم المتحدة والمجتمع الدولي ويقول لهم: «إنّ فريقاً من أبناء شعبنا متهوّرٌ يعرّضنا للخطر ويستفزّ عدوّنا ويعرّض سلامة أهل الكهف للانزعاج ويتجاهل القرار 1701 المفروض علينا؟!».

المطلوب عملية استفتاء حول هذه الأسئلة، وسنعرف عندئذٍ أنّ شعبنا لا يمكن أن يسلّم بهزيمة لبنان. هذا البلد محدود المساحة والسكان، الذي أجبر «إسرائيل» على ما عجزت أن تفعله كلّ الدول العربية.
يقولون في حكمة الضعفاء إنّ العين لا تقاوم المخرز. ولكنّ حكمة الأقوياء تقول إنّه أشرف للعين أن تقاوم المخرز وتفقأ، من أن تستسلم وتفقأ. الجندي الهارب من الميدان ليس كالجندي الذي يموت وراء متراسه.
«إسرائيل» في تخبّط، و فريقٌ منّا يستعدي المجتمع الدولي ضدّ بلده وضدّ شعبه ويقول أنّ فريقاً منّا يعتدي ويتجاوز القرار 1701 وكأنّه يضع في يد عدوّه حجّة يبرّر بها عدوانه، مع أنّ أطفال المدراس الابتدائية في لبنان على الأقل، يعرفون أنّ «إسرائيل» في كلّ اعتداءاتها على لبنان لم تكن بحاجة إلى مبرّر أو ذريعة.
مرحباً بالعين التي تقاوم المخرز حتى ولو فُقئت!  

السابق
خفافيش المستقبل تعتذر عمّا اقترفته أيوب
التالي
عودة التوتر الى الحدود اللبنانية السورية