امبراطورية جنبلاط ولعبة درء الفتنة

لا يمكن وليد جنبلاط بعد الآن أن يدّعي احتكاره لطائفة الموحدين الدروز. في وجه البيك قوى رئيسية تشكّل منافساً تاريخياً لزعامة المختارة، وطلال أرسلان واحد منها. إلى جانب أرسلان حلفاء، ينقص أن يتضامن المير معهم ولا ينفرد في تقرير الخصومة أو الصلحة مع البيك من دونهم

يؤكّد أكثر من مصدر في قوى 8 آذار الدرزيّة أنهم يلمسون «لمس اليد» حرص النائب وليد جنبلاط على إبعاد أي إشكال ذي طابع درزي ــــ درزي عن ساحة «إمبراطوريته» الممتدّة من نيحا إلى ترشيش. وفي رأي هؤلاء، أكثر ما يخيف جنبلاط اليوم هو الاقتتال الدرزي ــــ الدرزي. ليس حرصاً من البيك على أرواح أبناء طائفة الموحّدين الدروز، بل لأن الصراع الداخلي يُفقد زعامة المختارة حصرية تمثيلها للطائفة، ويعيد فرز العائلات الدرزية على أنماط قديمة «جنبلاطية ــ يزبكيّة».
جنبلاط ليس وحده الحريص على الوحدة الدرزية؛ إذ إن لعبة «درء الفتنة» نفسها يمارسها النائب طلال أرسلان، وهي، ربما من دون أن يدري، تصبّ في مصلحة خصمه السياسي. إلا أن في الجبل اليوم حراكاً من نوعٍ آخر، بدأت القواعد الأرسلانية في التعبير عنه، وهو «ضرورة عدم الانجرار وراء جنبلاط في شعارات خاوية» لا تخدم غير تثبيت زعامته مجدّداً على ما بقي من خصومها التاريخيين. وهذه ليست حال الأرسلانيين وحدهم؛ إذ إن الحزب السوري القومي الاجتماعي والوزير السابق وئام وهاب لا يروقهما تماهي أرسلان مع الموجة الجنبلاطية.
تاريخيّاً، عَمِل جنبلاط بجهد، منذ اللحظة الأولى لتسلّمه حزب أبيه، على تصفية خصومه في الجبل، مستفيداً من غضّ النظر السوري غير المحدود طوال فترة الحرب الأهلية، وما بعدها. ورغم تحالف الحزب التقدمي الاشتراكي مع الحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الشيوعي اللبناني في جبهة واحدة تحت مسمى «الحركة الوطنية» آنذاك، عمل الاشتراكيون على التخلّص أو الحدّ من أي حالة منافسة حقيقية في مناطق عاليه والشوف والمتن الأعلى.
صادر جنبلاط قرار الشيوعيين في الجبل، وغلّب جناحاً على آخر داخل القومي في فترة انشقاقه بين «الطوارئ» و«المجلس الأعلى». في ذلك الوقت، لم تكن الحالة الأرسلانية في وضع يسمح لها بتشكيل معادلة قوّة. فقد كان ارتماء الراحل مجيد أرسلان في أحضان «اليمين اللبناني» وقبله الرئيس كميل شمعون، وارتماء الراحل كمال جنبلاط في أحضان منظمة التحرير الفلسطينية ثمّ وليد جنبلاط في أحضان سوريا، نقطة قوّة للجنبلاطية في عزّ صراع درزي ــ مسيحي بدأ في حرب السنتين وامتد إلى ما بعد حرب الجبل عام 1983.
تختلف حالة الجبل اليوم اختلافاً جذريّاً. لم يعد جنبلاط ناطقاً رسميّاً باسم الحركة الوطنية، ولا حليفاً لسوريا. هو، في السياسة، عدوّ لسوريا وأكثر من خصم بالنسبة إلى حزب الله ـــ القوّة العسكرية والسياسية الأولى في لبنان ــــ وبالتالي على خصام سياسي مع القومي حليف الأمس. واليوم، أيضاً، استعاد أرسلان عبر الحزب الديموقراطي اللبناني شدّ عصب اليزبكيين، مشكلاً مرجعية سياسية للكثير من العائلات الدرزية التي لا يمكنها أن تنصاع في بيت الطاعة الجنبلاطيّة لأسباب وأسباب. فبعد أحداث 11أيار 2008 في الجبل، تكرّست زعامة أرسلان، وظهر المير «منقذياً واعياً للدروز في ظلّ تهوّر جنبلاطي يغامر بمصير الطائفة ويدفعها إلى الانتحار عبر خطوات غير محسوبة، ومن ثمّ التراجع والانكفاء».
تنتظر قوى 8 آذار اليوم، كما جنبلاط والساحة اللبنانية عموماً، انقشاع المشهد السوري. إلا أن الوقت الضائع لحين اتضاح وجهة الأمور، يضع هذه القوى أمام اختبارات من نوع الحفاظ على التماسك، وتالياً إثبات الوجود وتشكيل حالة مواجهة سياسية حقيقية وربّما أمنية في وجه التفرّد الجنبلاطي بالقرار الدرزي.
في كلّ مرّة يكرر أرسلان حرصه على الوحدة في الجبل، وأن «الفتنة بين الدروز لا يمكن أن تمرّ»، وهذا ما أعاد قوله في أكثر من مناسبة، إحداها كانت قبل عشرة أيام خلال زيارة له هو وجنبلاط للباروك لافتتاح مؤسسة الشيخ أبو حسن عارف حلاوي، ثمّ في زيارة له لقرى المتن الأعلى وجرد عاليه. قد يثلج المير بطمأناته قلوب الدروز، لكنه ــ في الوقت نفسه ــ يدرك بحسب بعض صقور اليزبكية أن «هذا تماماً ما يريد جنبلاط سماعه: قرار أرسلان في جيبي بحجّة الفتنة، مقابل مقعد في عاليه».
إلا أن في داخل جسم الحزب الديموقراطي اللبناني أيضاً من يظنّ أن على «المير مواجهة جنبلاط؛ لأن العائلات الأرسلانية تلتصق أكثر وتتماسك في حال مواجهة الجنبلاطية، وينفرط عقدها ويضعف عصبها في حال مهادنة الأخيرة».
يملك أرسلان كل ما يحتاجه لمواجهة جنبلاط. يستند الرجل إلى ذاكرة تاريخية تدفع العائلات اليزبكية إلى الإحاطة به وتكليفه تمثيلها في السياسة. ولم يعد أمام المير موانع لمواجهة «الغول الجنبلاطي»، في ظل دعم غير محدود من حزب الله وسوريا لكسر الأحادية. وتشير بعض الأصوات الأرسلانية إلى أن «المير لا يحتاج إلى منّة من جنبلاط ليحصل على مقعد درزي في عاليه»؛ إذ يستطيع أن يتحوّل إلى زعيم، «تمتدّ زعامته من المتن الأعلى إلى حاصبيا، ولو لم يحصل على مقعد نيابي، إذا ما قرّر التعبير عن الصوت المناوئ لجنبلاط داخل طائفة الموحدين».
أرسلان ليس وحيداً طبعاً. يشكّل القومي المتجذّر في عاليه وجردها، وبصورة أقل في الشوف، حليفاً قويّاً لأرسلان. وأثبتت التجربة أنه قوّة عسكرية وسياسية لا يستهان بها في محطتين أساسيتين: في أحداث 11أيار، وما بعدها في استعراضه 500 شاب بزيّ عسكري في بلدة بيصور قبل سنتين، كما في كلّ الاستحقاقات الانتخابية النيابية والبلدية حيث يكون دور القومي فاعلاً في ترجيح كفّة الفوز بين الاشتراكيين والأرسلانيين. العلاقة المتوازنة بين القومي وأرسلان تشوبها شائبة. بحسب مقرّبين من القومي، «يتعاطى المير مع خصوم جنبلاط في الجبل وحلفاء اليزبكية المفترضين بكثير من اللامبالاة؛ إذ يرى نفسه المعبّر عن هذه القوى وأنها ملحقة به، يحتاجها للضغط على جنبلاط ويتخلّى عنها إذا ما ركّب تسوية ما مع خصمه التقليدي». ولا شكّ في أن القومي، على ما يقول هؤلاء، «يحتاج غطاءً مذهبياً داخل الجبل الدرزي، وخصوصاً في ظلّ أجواء الاحتقان المذهبي في البلد». لكن هذا لا يعني أن أرسلان «يستطيع أن يقرّر متى الخصام ومتى الوئام مع جنبلاط. عليه أن يعترف بحلفائه كقوّة موجودة ومؤثّرة والتخلي عن نمطيّات الفكر الإقطاعي في إقصاء الآخرين».
هذا الامتعاض يشمل وهّاب أيضاً، الذي يفتقر الى «الكيمياء» التي تجمعه مع المير، في ظل حالة من التنافس المعلن وغير المعلن. لكن وهّاب أثبت بعد انتخابات المجلس المذهبي الدرزي أنه يستطيع إحداث فارق ما، إذا قرّر العمل على مواجهة جديّة، وخصوصاً في قرى مناصف الشوف، «وهذا ما على أرسلان الاعتراف به قبل البحث عن صيغة للوقوف بوجه الأحادية».
كلّ هذا وقوى 8 آذار تعاني حالة شرذمة وفقدان أي تنسيق حقيقي بينها، في وجه حالة جنبلاط المتماسكة. إلا أن الأشهر الأخيرة وتجربة انتخابات المجلس المذهبي الدرزي، وضعت هذه القوى أمام تحدّي البحث عن آلية عمل لتوحيد جهودها في وجه الجنبلاطية. تدرك 8 آذار، وأرسلان على رأسها، أن الوقت ليس في مصلحتها. ففيما تتلهى هذه القوى في منافسة بعضها لبعض على ما بقي من الدروز خارج «الجنبلاطية»، يعزّز جنبلاط زعامته كمرجع درزي وحيد يحمي الطائفة أو يعرّضها للهلاك، في غياب منافسين حقيقيين.

السابق
الهلال الروسي
التالي
شبيه للأسد بقبضة المعارضة