الرئاسة في حاجة إلى فؤاد شهاب

الصراع في المنطقة دخل مرحلة الحسم. الهيمنة السورية على لبنان انتفت إلى غير رجعة. محور الممانعة الذي خطف القرار السياسي للمنطقة على مدى عقود بدأ بالتفكك التدريجي. العالم العربي المشكّل من عرب اعتدال وعرب ثورة لا يوجد في قاموسه مصطلح سياسات النفوذ. كل ذلك يجعل لبنان أمام فرصة تاريخية لإعادة بناء دولته.

ارتبط عنوان الدولة في لبنان تاريخياً بالمسيحيين ربطاً بمساعيهم التي أثمرت ولادة لبنان الكبير والميثاق الوطني، من دون أن يعني ذلك انتفاء دور الشريك المسلم الذي لولا انخراطه لَما كان ممكناً لهذا المشروع أن يبصر النور، إلّا أن ثمّة شعورا رافق المراحل التأسيسية للكيان اللبناني وصولا إلى لحظة إخراج الجيش السوري من لبنان، مفاده أن الدفاع عن فلسفة هذا الكيان ودوره وروحيته كان مهمة مسيحية.

وبمعزل عن الأخطاء أو الخطايا التي ارتكبها المسيحيون بالممارسة، إلا أن خشيتهم الرئيسية من التخلّي عن الامتيازات التي منحتهم إياها الجمهورية الأولى لم تكن يوما بدافع الحفاظ على مكتسبات سلطوية وحصصية، بل كانت خوفاً من أن يؤدي انحسار نفوذهم إلى انهيار الميزات التفاضلية التي قام عليها لبنان من ديموقراطية وحرية وتعددية إلى عدم تحويله إلى ورقة بيد هذا الطرف وساحة لحساب هذه الدولة.

وللتذكير بأنّ عنوان الصراع ما قبل اتفاق الطائف كان بين نهائية لبنان وهويته العربية، وبين العلمنة وإلغاء الطائفية، وبين التحييد والتوريط… وتبعاً لهذا الانقسام فإن النظرة المسيحية إلى المطالبات الإسلامية بالعدالة والشراكة في التمثيل السياسي كانت تشكل مصدر قلق ليس لجهة أحقيّتها، إنما لناحية قدرتها بعد تحسين ظروف مشاركتها بتغيير وظيفة لبنان من مركز للعيش المشترك والتفاعل الحر إلى صندوق بريد للقوى الإقليمية التي تريد مَدّ نفوذها على حسابه.

وهذا التشخيص ليس الغرض منه إبراز أحقية وجهة النظر المسيحية على حساب وجهة النظر الأخرى التي كانت تتصرّف، ليس بوصفها أدوات، إنما بوَحي قناعتها المتصلة بوجدانها العروبي وشعورها بالظلم اللاحق ربطاً بالقضية الفلسطينية، هذه القناعة التي تطورت بفعل العوامل التاريخية والأحداث المتلاحقة وصولاً إلى الحدث المؤسس محلياً والمتمثّل باستشهاد الرئيس رفيق الحريري ورفع الجماعة السنية شعار "لبنان أولا".

وما انطبق على السنّة لم ينسحب على الطائفة الشيعية التي كانت دوماً مع الخيار اللبناني، إلى أن تمّ إخراج "منظمة التحرير الفلسطينية" من لبنان حيث لمست القيادتين السورية والإيرانية مدى الحاجة إلى إنشاء أداة من داخل النسيج اللبناني وظيفتها إبقاء لبنان ساحة لطهران ودمشق. ومن هنا لا تجوز المقارنة بين الشعور السني العفوي والوظيفة التي على أساسها ولد "حزب الله"، وحاول خطف القرار الشيعي بنقله من لبنان إلى إيران.

ومن أجل أن يكتمل المخطط السوري – الإيراني عملوا على قهر المسيحيين وإضعافهم بهدف تحويل اهتماماتهم من وطنية-سيادية إلى تمثيلية-حصصية، فيما القاعدة التاريخية أثبتت أن فعالية دورهم ليست مرتبطة بحسن تمثيلهم بقدر ارتباطها بفعالية دور الدولة، هذه الدولة التي دافعوا عن مدنيتها قبل 91 عاما على اندلاع الثورات العربية التي أعادت الاعتبار لمفهوم الانسان الفرد وحريته على أي اعتبار آخر.

وفي هذا السياق، من المفيد أن تعيد القوى السياسية في 14 آذار، عشية الاستحقاقين الداخليين المفصليين النيابي والرئاسي، تحديد رؤيتها السياسية بعيداً عن الخشية من المزايدة العونية بالتنازل عن حقوق مسيحية، لأن من يتمسّك بحقوق المسيحيين لا يتنازل عن الدولة لسوريا وإيران و"حزب الله"، ما يجعل عنوان المعركة استعادة الدولة التي تشكل المعبر لاستعادة المسيحيين حضورهم التمثيلي.

فالتمثيل المسيحي هو خطوة لاحقة لعودة الدولة، إذ ما النفع من وصول عونيين إلى الندوة البرلمانية يحملون مشروعا سياسيا لا يمتّ إلى الثوابت الوطنية المسيحية التاريخية بصلة، فيما الأساس يكمن في توحد القوى السيادية المسيحية والإسلامية تحت مظلة جَبهوية لإعادة ما للدولة للدولة وما للطوائف للطوائف.

ومن هنا تبرز أهمية العهد الشهابي الذي نجح، ولَو جزئياً، نظراً للعوامل الخارجية المؤثرة، في تبديد الهواجس الطائفية عبر إنشاء المؤسسات وتحديثها وتطويرها، وبالتالي حاجة المسيحيين اليوم هي إلى فؤاد شهاب يعمل على تجديد المسيحية السياسية من باب الدولة ومؤسساتها وليس الطائفية ومكتسباتها، ويزاوج بين البعد التمثيلي للخط السياسي المسيحي التاريخي الذي عنوانه الدولة في لبنان، وبين الخطاب الوطني القادر على مخاطبة كل اللبنانيين وإخراجهم من الطائفية لإدخالهم في كنف المؤسسات.

لا خلاف حول أهمية قوانين الانتخاب في إنتاج السلطة السياسية التي تشكل حجر الأساس في النظام السياسي، ولكن بعد أن تحولت المنافسة بين أي مشروع انتخابي يعيد للمسيحيين وزنهم التمثيلي، من المفيد، ربما، ردّ النقاش إلى أي مشروع سياسي يعيد للدولة وزنها، هذا الوزن بالذات الكفيل وحده أن يعيد للمسيحيين حضورهم ودورهم، إذ إنّ الخيار يتمثّل عملياً بين أن يحافظوا على كونهم آباء الفكرة اللبنانية المدنية الحاضنة لجميع الطوائف، وبين الانسحاب من المربّع الوطني إلى المربع الطائفي للبحث عن صيغة تمثيلية تبقيهم على رصيف الأحداث الكبرى.  

السابق
مقتل 3 فلسطينيين بينهم زعيم سلفي جهادي في غارات إسرائيلية
التالي
رومية وكرٌ للقاعدة