معادلة بمجهولين

القول إنه "ما كانت أي دولة لتحتمل نارا مستمرة للصواريخ على بلدات المدنيين "هو كليشيه يعود الى عقد من الزمان، دليل آخر على انه في اسرائيل تكون الحجة الاعلامية، مهما كانت محقة وصحيحة بحد ذاتها، بديلا عن السياسة في أحيان كثيرة. فها هو اطلق هذا الاسبوع قرابة 60 صاروخا على بلدات مدنية في اراضي دولة اسرائيل. وهذه النار ترافقنا منذ أكثر من عشرين سنة، وهي حقيقة حياة اسرائيلية، لا يعرض أحد لها حل جدي، باستثناء اقتراحات احتلال غزة، التي تنطلق من المسافة الامنة ممن ليس القرار في يده.
الحقيقة هي أن منظمات الارهاب التي تحيط باسرائيل نجحت في أن تقرر المعادلة، التي بموجبها حرية العمل لدينا خلف الحدود تنشأ عن حرية النار لديهم على المدنيين، وتنبع منها بالتوازي. النار هذه الاسبوع على بلدات النقب الغربي كانت ردا على هجمات سلاح الجو في غزة: وحسب نهج منظمات الارهاب فان الجيش الاسرائيلي هو الذي "بدأ" وهم ردوا. في نظر اسرائيل، بالطبع، الهجمات الجوية كانت أعمالا وقائية. مهما يكن من امر، فان الطرفين يقيمان المعادلة دون الاعتراف فيها علنا.
هذه الوضع الاساس في الامن الجاري بدأ في حدود لبنان في نهاية السبعينيات وتعاظم كلما أصبحت الدول حول اسرائيل ضعيفة ولا تؤدي دورها والمنظمات شبه الدولة، التي تسيطر عمليا على الارض ولكنها لا تأخذ المسؤولية الكاملة على سلامة سكانها، تحولت لتصبح عناصر القوة المقررة: م.ت.ف وبعدها حزب الله في لبنان، حماس في غزة. ما يحركها هو ثمن الخسارة المختلف للطرفين. الطرف القوي والمزدهر، أي اسرائيل، ترغب في أن يبقى الوضع الراهن، وتعمل ليس لتحقيق حسم بل للعودة اليه في أقرب وقت ممكن؛ اما الطرف الضعيف فلديه اقل بكثير مما يخسره، ولهذا فكلما شعر بالضغط يخلق هزة.

لا دخول
لقد وصف اسحق رابين سياسته على الحدود اللبنانية في التسعينيات بكلمات بسيطة: إحرصوا على الا تكون كاتيوشا. له ولقادة الجيش الاسرائيلي كان واضحا بان مثل هذه السياسة تسهل على حزب الله خلق "قواعد لعب" مريحة له: النشاط انحصر بالتصدي بين الجيش ومقاتلي العصابات الشيعة داخل الاراضي اللبنانية، وكلما نشأ وضع أزمة – في حزب الله أو في جيش لبنان الجنوبي، الذي وجه نحوه أساس ضغط المنظمة – ادخل سكان الشمال في دائرة النار كي يخلق التصعيد عودة الى الوضع الراهن. من ناحية حزب الله، فان كل يوم كهذا كان انتصارا، وذلك لان الضعيف يقوي نفسه في كل لحظة يدعي فيها القوي بانه سيهزمه ولا ينجح في ذلك. الحقيقة هي أنه قبل وقت طويل من الانسحاب من لبنان في العام 2000، كف القوي ببساطة عن محاولة الانتصار.
في غزة كل شيء قريب وفوري أكثر. لا توجد منطقة حزام أمني، بلدات كبرى في اسرائيل توجد منذ الان في مدى نار متزايد للسلاح الذي لدى الفلسطينيين. من الجهة الاخرى، حماس هي حكم حقيقي بالنسبة للغزيين، ولكن قوة اسرائيل وعزلة القطاع تسهل عليها التملص من المسؤولية عن مصاعب السكان. وعلى نحو مفعم بالمفارقة، حتى النجاح اللامع لحملة "قبة حديدية" يسمح للطرفين بمواصلة تثبيت قواعد اللعب غير المكتوبة هذه: كلما قل خطر الاصابة بالارواح في الطرف الاسرائيلي، كان بوسع القيادة في القدس الامتناع عن خطوات لا تريد أن تنفذها، وبالمقابل يمكن للفلسطينيين مواصلة اطلاق النار: أحد لا يحصي حقا الضرر الذي ألحقته الصواريخ هذا الاسبوع، باستثناء سكان النقب الغربي الذين يعيشون منذ عقد من الزمان في هذا الوقع من الاضطرابات.
إذن ما العمل؟ يخيل أنه نفدت الافكار او الدوافع لتطبيقها. اقتراحات مثل ذاك الذي طرحه في الماضي اللواء احتياط عميرام لفين، لسياسة عقاب ثابتة، واضحة وغير متوازنة في كل حالة من اطلاق النار، لم تجرب حقا أبدا وتعتبر اليوم تطرفا غير مرغوب فيه. فالجيش الاسرائيلي لا يسارع الى الدخول الى غزة: حتى من اعتبر في الماضي كمشجع لنشاط شديد القوة اكثر، يوآف غالنت كقائد للمنطقة الجنوبية مثلا، فعل ذلك من الوضعية المريحة لمن يعرف بان القرار ليس في يده. انسحاب من طرف واحد سبق أن كان، حصار اقتصادي سبق أن جرب وهو قائم بهذا المستوى أو ذاك حتى اليوم، العزل عن الضفة يمارس كل الوقت على الارض.
يتحدثون في الهواء
خلافا لما حصل في موضوع لبنان في النصف الثاني من التسعينيات، وفي غزة أساسا بعد رصاص مصبوب، لا تنشأ أصداء حقيقية لجدال جماهيري أو داخل المنظومة. في لبنان تجادل لفين مع رئيس "امان" (شعبة الاستخبارات العسكرية) بوغي يعلون، وبنيامين نتنياهو في ولايته السابقة فكر حتى بالانسحاب ولكنه كعادته لم ينفذه. في غزة، جسدت بالذات حملة رصاص مصبوب انعدام الجدوى من "الحملة الكبرى": الجيش الاسرائيلي دخل اليها وكأنه تملكه الشيطان، وزير الدفاع ورئيس الاركان ارادا فقط أن تنتهي، التخوف من أن نحتل حقا غزة دفع نحو النهاية بلا ترتيب، والردع، الذي تخيلناه قبلها فقط اذا ما ضربنا العربي بقوة بما يكفي فانه سيفهم، لم يصمد ولا حتى سنة.
الجيش الاسرائيلي يستعد لـ "رصاص مصبوب 2"، لان الجيش يستعد لكل شيء. عمليا، يعرف قادته بان خطر الاشتعال الحقيقي هو في الشمال، حيث يمكن أن ينشأ في كل لحظة وضع أزمة، يتطلب التدخل بقوات كبيرة والتزام كامل. انظروا الى القوات التي نفذت رصاص مصبوب: هذه ذات ألوية المشاة والمدرعات التي قاتلت في حرب لبنان الثانية وستقاتل في الشمال في حالة التصعيد. لا يوجد جيش آخر لهذه المهام.
وهكذا، فان الجملة التي بدأنا بها تصبح واقعا حياتيا. توجد دولة، اسمها اسرائيل، تعاني عمليا كل يوم من اطلاق نار الصواريخ على المدنيين في اراضيها. وهذا يعتبر في نظر قادتها، اذا ما حاكمنا الامور حسب سلوكهم، أقل خطورة من اختطاف جندي الامر الذي اذا ما حصل لا سمح الله فسيعني على نحو شبه مؤكد حملة عسكرية كبيرة، مثلما كان الامر بعد اختطاف جلعاد شاليط.
المسألة ليست مسألة حل عسكري بل مسألة وعي وزعامة. نار الصواريخ هي استمرار للارهاب الذي يمارس ضد اسرائيل منذ الخمسينيات: في حينه كان الرد على المتسللين باعمال انتقامية مضادة، في الغالب جرت ليس ضد المتسللين بل ضد الجيوش النظامية للدول التي من داخل اراضيها جاء المتسللون. العمليات الكبيرة في بداية العقد السابق أدت الى اعادة احتلال الضفة الغربية فقط بعد أن وصل عدد الضحايا الى العديد من المئات. فالقيادة الاسرائيلية تبث بافعالها أنه بالنسبة لها النار الحالية على الجنوب هي أمر يطاق وتشكل عمليا السور الواقي للنشاط العسكري. في تصريحاتها تواصل ادعاء العكس. هذا الفارق، بين الواقع اليومي وبين الحال الماضي، بين القوة المادية وبين انعدام القدرة على استعمالها بشكل يخلق الحسم، هذا الفارق هو الذي يقضم من أمننا القومي، حتى أكثر من الضرر المادي او النفسي للصواريخ.  

السابق
التوقع: اوباما وبيبي
التالي
المنظومة المتغيرة للقوى في الشرق الاوسط