خـريـف كهـال الهـواء

كلّ الدوافع خريف. أفتعل مشكلة أحياناً، ليــصفوَ الطقس ويتسلل بحنان إلى قلبي وأهدأ، أعشق هذا الهدوء. أقــول لكــل ورقــة تسقط إني أعيش قصة حب عتيــقة، كـصوت يباسها حين تدوسها أقدامنا في طريقها إلى الحنين. وأطــلب من الشجر الذي يحمــل صــدري أن يُسقط مع كل اصفرار فأل الشر. أصدق القصص، وما لمّ الخريف عن الشــجر. أحاول تتبّع تمدد الشمس على الأشياء. تحب التسلل في التفاصــيل، عرفت ذلك حين رأيت خيوطــها تلامــس نصــف وجهي، أو غطــاء سريري وقليلاً من الأرض، أو طاولة المطبخ، حين فتحت نافــذته في الصباح. هذه شمس الخريف، تكوّر الحنين على شكل شعلة.
أمضي في فصل يشدّ على روحي حتى اليدين، أمضيه وكأنه يوم الأحد، شيء يشبه ما طلع على محمود درويش وما استلقى على قلبه، شيء يشبهه: «في البيت أجلس، لا حزيناً لا سعيداً لا أنا، أو لا أحد (…) كسل خفيف الوزن يطهو قهوتي، والهال يصهل في الهواء وفي الجسد». كتبي وأوراقي أبعثرها، كي أشعر أني أعيــد نفث حــياتي وأحزن. أتقصّد الحزن كي أستشفّ من كل طلوع في تشرين حباً وحلماً، وأقول «يــا ورقة الخريف التي ستقع، كم من آمال معقودة على سقوطك!» (أنسـي الحاج).
غيمة وحـيدة فـوقي، كــل شيء في الخــريف يصير وحيداً، حتـى الفرح. تمشــي وتظلل وجهي، وعيــني على الظل تحتي، مطــر ناعم لخريف حزين.. الرائــحة، والــدفء، والغريب، والبرد البعيـد، ونَضج الذكــرى، ومتن الأرض، وانغراس الثقل من الجــسد، في المــطر الخفيف. الفرح الوحـيد حزيناً بوحدته، فرحاً بحــزنه. حزن الخريف كولــع الصيف، و«كنكنة» الشتاء. شيء من طقوسه. حزن يراد «عند هبوط الخريف على الروح». تصير الأم أكثر هماً، والأب أباً على عجل، يريد أن يلحق أيام عمل كثيف بلا برد ولا مـطر. والولد يعدّ أقلامه الجديدة، والبنت تحتضن وسادة السرير لتخــفي عن أمها التقاطها الهاتف، وذبذباته التي ترفرف فوق قلبها، وارتجاف صوتها، لتودّع معه السهر.
أحاول رسم الخريف. يصير على شكل قلب. أروح أفتش عن ظله، ظل القمر، وفي ظل حبيبين على مقعد تحت الشجر، ويبقى بما فيه كله كامناً في ظل شيء دفين كـ«ظل المعاني».
أفتش عنه بين الملامح وبين القصائد وبين قلبين اجتمعا تحت عينيه. أحاول رسم الخريف، يصير على شكل قلب.
في الخريف، تغلق باب الشرفة جــاهداً لئلا يتســلل ضجيــج الطريق إلى المكــتب، أحب السيــجارة فيه لأن الدخان كهال الهواء، مزيـــج من لذة الحــب ومرّ المزاج. في العمل لا حــجة لخــروج كثير إلى الشرفــة سـوى السجائر، فأصــير اندثار الشـكل وأطــير خارجاً في الدخــان، وسـط «الخريف الخفيف، البهي والعاجي» (فرناندو بيسوا).
ويذهب عازف عربي إلى برج إيفل لينظم وجه الخريف على شكل بلد مشتهى في خياله، ويرتب مقطوعةً موسيقية أندلسية، فرحة بفتحها، وعاشقة لضمها إلى أبجديته وسط مكان غريب. ويصير المزاج كثيفاً، وتتدحرج الأحداث واحدة تلو أخرى، وتصير تفاصيل الماضي رغم نسيانها كل تشرين. وحين يستريح هذا الذهول نقول لأول حب «أنا أيضاً/ أشكو الخريف» (إسكندر حبش). 
 

السابق
الخطاب الحاقد في المستقبل
التالي
راغب يقرض المال للحريري!