سوريا قلب العالم

كثيرة هي المفاجآت التي حملَتْها لنا الأحداث السورية منذ سنة وسبعة أشهر تاريخ اندلاع الثورة السورية. فما بدا أنه الحلقة الأخيرة لموجات "الربيع العربي" المتنقّلة في شمال إفريقيا ومنه، سيظهر أكثر تعقيدا من ذلك على كل المستويات.

صحيح أن موجات الثورات العربية بحد ذاتها مثّلت مرحلة جديدة من مراحل التحولات السياسية والأيديولوجية شملت منطقة بكاملها أفرزت خصائص شخصيتها إلى السطح السياسي والسلطوي بما يسمح بمقارنتها من حيث "نهاية التاريخ" أي سيادة الفكر الديموقراطي بما حصل في أوروبا الشرقية والوسطى مع سقوط جدار برلين ثم انهيار الاتحاد السوفياتي وقبل ذلك بموجة التحوّلات الديموقراطية في أميركا اللاتينية في السبعينات وأوائل الثمانينات…

صحيح ذلك، إنما تفاعلُ وتفاقمُ ما حدث ويحدث في سوريا تحوّل إلى نقطة انعطاف صراعية في العلاقات الدولية بحيث ليس من المبالغة الاستنتاج أن صورة جديدة للنظام الدولي سترتسم من نتائج الصراع في سوريا.
مفاجأة المفاجأة في هذا الانعطاف ليس مصير موقع ودور إيران على أهميتهما الفائقة في مستقبل المنطقة وإنما دور روسيا في نظام العلاقات الدولية.
المفاجأة الأخرى هي أن الصين اختارت سوريا لتكون شكل التعبير عن تحرّك ديبلوماسي معترض في الشرق الأوسط و خارج منطقة الشرق الأقصى وجنوب شرق آسيا في لحظة تصاعد توتراتها السياسية في محيطها المباشر الذي بات يشكّل مركز الحيوية الاقتصادية في العالم. 
مع روسيا والصين أصبحت حدود سوريا ممتدة من القوقاز إلى آسيا الوسطى. وصارت ساحة الأمويين في دمشق محاذيةً لساحة الكرملين في موسكو وتيان آن مين في بيجينغ من حيث وحدة الخطر الديموقراطي على مستقبل الأنظمة الثلاثة بتوظيف ديناميكي من "القوة الناعمة" الأميركية.
المفاجأة الثالثة أن حجم الاندفاع التركي للإلتحاق بموجات "الربيع العربي" التي فاجأت تركيا ولم تكن مستعدةً لها…هذا الاندفاع بات يقرر مصير أول محاولة عملية تركية لتغيير المنطلقات التي وضعها مصطفى كمال أتاتورك منذ العام 1923 بشكل جوهري من حيث العودة للتوجه إلى الشرق الإسلامي وبهذا وصل هذا الخيار إلى حد أنه سيقرر مصير وجود "حزب العدالة والتنمية" في السلطة.
هذه المفاجأة الثالثة تُمكن صياغتها أيضا بالشكل التالي: حجم اندفاع "حزب العدالة والتنمية" على رأس أكبر كتلة شعبية تركية ذات حساسية إسلامية في تاريخ الجمهورية التركية في المواجهة السورية.
لكن بالمقابل حملت هذه المفاجأة مفاجأة مضادة رابعة هي انكشاف حجم التعاطف العلوي داخل تركيا مع القوة العلوية الموجودة في السلطة السورية.

هكذا يمكن اختصار المفاجأتين الثالثة والرابعة في واحدة: انكشاف الوضع الطائفي التركي بسبب الأحداث السورية.
المفاجأة الخامسة هي في مستوى تماسك الكتلة العسكرية الأساسية للنظام السوري والتي تقدّر برأي المصادر الفرنسية بمئتي ألف عسكري محترف ومقاتل بمعزل عن النسبة غير الواضحة لعدد الوحدات المنخرطة في القتال الشامل الدائر الآن وهي باتت لاشك كبيرة من درعا جنوبا إلى دير الزور شرقا إلى حلب شمالا.
ليست هذه كل عناصر الوضع السوري وخصوصا، حتى لا ننسى المنطَلق، التحرك الشعبي والشبابي الواسع جدا الذي أطلق الثورة ضد نظام سياسي هو جزء من مدرسة حزبية عسكرية وَضَعَ "الربيع العربي" حدا لمعظم حلقاتها المستمرة منذ الخمسينات. لكن هذه المفاجآت الخمس تجسّدت من حيث أن معظم المتابعين خارج سوريا ما كانوا يتوقّعونها.

المفاجأة السادسة وهي الأهم والأُولى والأصعب هو الهَوْلُ التدميري الذي كشف عنه الصراع بين النظام والمعارضات في سوريا: هناك سبع مدن سورية تتعرض للتدمير العنيف في "لحظة" واحدة مع أريافها المحيطة التي هي أقرب إلى مدنٍ صغيرة.
فاق التدمير السوري ما شهده العراق ويكاد يتخطى في أشهرٍ التدميرَ الذي شهده لبنان في 15 عاما. لا بل تخطاه.

لم يُفاجىء الوضعُ السوري بما ظهر من قوة "الإخوان المسلمين" كقوة شعبية منظمة رئيسية على الأرض في مواجهة قوة النظام، ولا بالجاهزية الإنفصالية الكردية المختمرة والمحتقنة والممتدة إلى داخل تركيا، ولا بتعددية التحالفات المناطقية والسنية و الاقتصادية للنظام الأقلاوي الحاكم، ولا بظاهرة الخوف المسيحي الاجتماعي السوري من تجذّر التيارات الإسلامية الأصولية، الخوف – الموقف المدعوم من جميع الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية السورية و"المُغطّى" من الفاتيكان، وإن كانت درجة انخراط الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في "حراسة" هذا الموقف، وهي الحليفة الأساسية للرئيس فلاديمير بوتين، يمكن اعتبارها المفاجأة السابعة في هذا التعداد بدءأ من زيارة بطريركها إلى دمشق في بدايات الأحداث. ولا طبعا كان مفاجِئاً تشابهُ الثورة السورية مع حالات "الربيع العربي" التي سبقتها من حيث قوة تعبيرها عن حداثة دينامية شبابية من الطبقة الوسطى ولا حجم التصميم الملكي السعودي القتالي ضد النظام بما يذكّر بدرجة استنفار العصبية السعودية في عهد المؤسس الملك عبد العزيز او خلال حرب اليمن في الستينات، ولا موجة تنظيم التحاق الجهاديين العرب والمسلمين، أي "الأفغان الجدد"، بالثورة السورية المتعسكرة رغما عن إرادة الأقلية النوعية من ناشطيها ومثقفيها "العلمانيين" وبينهم سُنّة ومسيحيون وعلويون…

لم يفاجِئ الوضعُ السوريُّ بكل هذه المعطيات التي كانت ظاهرة بنسبة أو بأخرى لمن يريد أن يصدّق ما يراه… الذي فاجأ فعلا أكثر من أي أمر آخر هو تلك المعطيات التي تجعل سوريا قلبَ الصورة المتشكّلة للنظام الدولي الجديد لا مجرد أزمة كبيرة مستعصية فيه وقلبَ القلبِ في "العالم العربي التركي الإيراني" الذي عاد متداخلا ومتلاطما مرة جديدة في التاريخ.

السابق
الخضروات الحل أمام سرطان الفم
التالي
عن الشيعة الجبناء…