هل تحلّ مشكلة السلاح؟

 بعد تكوين دولة الطائف، صدر قرار بتجريد الميليشيات من سلاحها، وقد بـقي «حزب الله» بمنأى عن المطالبة والضغط من بعض الأطراف بسـحب سلاحه. ولطالما أعلن الحزب بأن سلاحه هو لمواجهة الاحتلال فقط، ولا يمكن أن يتحول إلى سلاح توازن داخلي أو سيطرة داخلية في ظل وجـود الدولـة. وقد كان واعياً بالخطر المحدق الذي يتربَّص بالمقاومة في حال خالفت هاتين القناعتين، عــندما قال: «عندما تكون القوة العسكرية في مواجهة الاحتلال حصراً؛ وعندما يكون لبنان مقيَّداً بمجموعة توازنات تؤدي بمن يفكر بالغلبة على الآخرين إلى أن يصبح خـاسراً وجامعاً للأضداد بمواجهته؛ وعندما يؤدي الاستقواء العسكري لطائفة على الآخرين إلى فتنة داخلـية لا يربح فيها أحدٌ؛ عندها تكتسب المقاومة الجادَّة مشروعية طبيعية، وإلا انكشفت بسرعة، وحادت عن هدفها».
وبغضّ النظر عن هذه القراءة العميقة والحكيمة، فإن المشهد السياسي في لبنان، يؤكد لنا أن ما حذر منه «حزب الله» قد حدث بالفعل، ولا سيما بعد انزلاقه في أتون العمل السياسي المحكوم بالصراعات والتجاذبات والتسويات، جامعاً بذلك بين كونه حزباً مقاوماً وشريكاً كاملاً في مغانم السلطة السياسية، على الرغم من اختلاف طبيعة ومتطلبات وشروط كل منهما، ما أدّى إلى تسيس المقاومة، وجرِّها إلى خوض قضايا جانبية ومعارك داخلية، استنفرت من أجلها كل طاقاتها، وإلى تكثير خصومها ومنتقديها.
لقد برز «حزب الله» على المسرح المحلي والدولي بجدارة المقاومة، ولكنه تحول اليوم من قيمة إضافية للوطن، يُجمع الكل على مشروعية وجودها وضرورة استمرارها كقوة ردع في وجه التهديدات الإسرائيلية المتواصلة بالاعتداء على لبنان، إلى نظام وصاية بديل، إلى عبء ثقيل على الوطن، بعدما استنـزف رصيده في اللعبة السياسية الداخلية، الأمر الذي خلق مناخاً شعبياً شديد التعبئة والتحريض ضده، وحرم المقاومة من البيئة الوطنية الحاضنة، ومن الغطاء السياسي والشعبي الجامع، المساند والداعم لها؛ وبعدما زعزعت صورته العديدُ من المواقف والأحداث، ولا سيما استخدامه السلاح في أحداث السابع من أيار.
وعلى ضوء التطورات الدرامية والمعادلات المستجدة التي تشق طريقها نحو المنطقة، يعتقد كثيرون أن «حزب الله» بات اليوم بحاجة إلى القيام بسلسلة من الخطوات الشُجاعة التي تُعينهُ على استرداد توازنه المفقود، وتحقيق المصالحة مع شركائه في الوطن، ودفع شرور نشوب الصراع بين الهُويات الطائفية المتنابذة. وذلك بأن يقوم بمراجعة خطابه السياسي وإعادة ترتيب أولوياته؛ كي لا يصار إلى تحميله كل الخطايا والذنوب، واتهامه بأنه هو المعطِّل والمعوِّق لتقدم المجتمع وبناء الدولة، وأن لا خطر يتهدد الوطن إلا خطره وسلاحه. وكي لا يتخذ من حرصه على حماية دوره المقاوم، حجةً لوضع يده على السلطة، ومن انتصاراته وإنجازاته، ذريعة لاعتبار نفسه الجهة الوحيدة المخولة استرجاع الأراضي المحتلة ومواجهة الاستكبار العالمي ومقاومة السياسة الامبريالية والهيمنة الأميركية والسطوة الإسرائيلية التي تحول دون تحقق كرامة الشعوب وحريتها في المنطقة!
وبالفعل، في ظل مخاوف الكثيرين على المستقبل من نتائج الحريق السوري والعواصف الهوجاء التي تهبُّ من حولنا، لم يعد أمام «حزب الله» من فرصة لإنقاذ أولويته المطلقة، أو مشروعه الأصلي، إلا بتحويله إلى مشروع وطني عابر للطوائف يتعالى علـى كل الشبهات؛ مشـروعٍ يوظف فيه كل إمكانيـاته العقـائدية والبشرية والمادية في مصلحة بناء الدولة وتحصين الوحدة الداخلية وتفادي انفجار الفتنة السنية ـ الشيعية؛ مشروعٍ لا يقحم لبنان في محاور إقليمية، ولا يكون أداة في أجندات خارجية، ولا يزج الوطن بأسره في أزمات الآخـرين وصراعاتـهم، التي كلما اشتعلت، أنذرتنا بأن حرباً أهلية على وشك الاندلاع. إذ يستحيل أن نطلب تأييد الآخرين أو إجـماعهم على مشروع ـ حتى لو كان مقاومة العدو المشترك ـ إذا تبين لهم أنه يصبُّ في خدمة طرف سياسي واحد، أو جماعة حزبية أو طائفية بعينها، وليس في مصلحة الوطن بأكمله. ولا يزيد في قيمة المشروع أو جاذبيته أو مصداقيته، إذا ألصقنا بالآخرين تهمة الخيانة والعمالة الجاهزة والمدانة، لمجرد أنهم اختلفوا معنا.
إنها مهمة جلل، لا شك في ذلك، وهي تتطلب الكثير من الشجاعة والجرأة والإحساس بالمسؤولية، ومن التفكير الواقعي والبراغماتي البعيد عن منظومة الخيارات الحتمية والمواقف الحديدية، لنقد الذات والاعتراف بالأخطاء وبناء جسور التواصل. ففي بلد مثل لبنان، مُبتلى بالداء الطائفي والعصبيات العمياء والانقسامات القاتلة، لا يستطيع أي طرف، مهما بلغت قوته العسكرية أو قاعدته الشعبية، أن يُنصِّب نفسه حكماً وقاضياً ومقرراً عن جميع اللبنانيين. أجل، إن لكل جهة سياسية أو تيار أو حزب، قناعاته التي يروِّج لها، ويحاول اكتساب الأنصار لها، ولكن بُنية النظام الشديدة التعقيد والتركيب والهشاشة، والواقع الاجتماعي والسياسي والطائفي، كفيلان بإفشال أي مشروع يسعى أصحابه إلى التفرُّد والإقصاء وعدم الاعتراف بخيارات الآخرين وإراداتهم. والتاريخ اللبناني المعاصر، يقدَّم الأمثولة على الكثير من الأطراف التي لعبت أدواراً خطيرة على الساحة اللبنانية، بعدما حازت كل أسباب القوة والسلطة والنفوذ والرصيد الجماهيري، ثم ما لبثت أن هوت إلى نهايتها المحتومة. ولم يستطع المناصرون، في أعقاب انهيارها العظيم، الشفاء من الندوب العميقة والجراح البليغة التي أصابتهم.
ولأن المجتمع يتحرك ويتقدم كإرادةٍ واحدة، وليس كمجموعة إرادات منفصلة ومتناقضة وخاصَّة؛ ولأن الصراع السياسي بين القوى والأحزاب، في المجتمعات الديموقراطية، لا بدّ أن يكون صراعاً سلمياً، لا أن يرتدي طابعاً عنفياً؛ ولأن الميل إلى الإكراه والتسلط والعنف هو في بعض الأحيان تمويه لحالة الإفلاس والإخفاق التي تكون قد أصابت من يمارسها؛ فإن على «حزب الله» أن يبدأ بتحرير نفسه من عادة التلويح ـ عند كل أزمة ـ بفائض القوة التي يملكها، وأن يقبل بخوض صراعه السياسي ضمن قواعد اللعبة الديموقراطية السائدة. وهو يعلم أن إرساء مبادئ التفاهم والمسامحة والمشاركة والحوار وإشاعة روح الطمأنة والأخوَّة، من شأنه أن يؤسس لقوة إضافية كبرى تساعد في استثمار القوة العسكرية مهما كانت متواضعة، بينما تسقط القوة العسكرية مهما كانت كبيرة، مع تفشِّي الخصومات والانتقادات والاتهامات وفقدان الدعم النفسي والمعنوي في مواجهة العدو.
وتقبع وراء كل قول أو فعل من أي نوع كان، مجموعة من القيم الموجِّهة التي يعتقد صاحبها بأنها الطريق الأمثل نحو تحقيق مصالحه وأهدافه ومآربه، بصرف النظر عن طبيعة هذه القيم، سواء أكانت سلبية أو إيجابية. وفيما يخصُّ سعي «حزب الله» إلى حماية ظهر المقاومة وتأمين استمراريتها، فإن الاستقواء والغلبة والهيمنة والاستعلاء والعناد والاختزال، هي قيم سلبية تفضي إلى تزايد التجاذب والصراع والنفور والعداء وتناسل الأحقاد والعنف الفعلي واللفظي؛ أما التواضع والمسامحة والانفتاح والمرونة والليونة والخطاب العقلاني الهادئ البعيد عن لغة التقديس والتعظيم والتهويل، فهي قيم إيجابية تُفضي إلى المزيد من التأييد والدعم والاحتضان وتقليص مساحة الخلاف والالتفاف حول مشروع المقاومة الجادة. ولذلك ينبغي لحزب الله، في علاقته مع القوى والأحزاب والفعاليات السياسية، أن يتبنّى القاعدة الذهبية العملية التالية: «التفاهم أولى من التخاصم، والتعاون أولى من التنافر، واجتماع القوى أولى من تشتيتها، ومواجهة الاحتلال أولى من الاختلاف الداخلي».

السابق
متطرفون إسرائيليون في مدن الـ48 لتهويدها
التالي
بري دعا لمناقشة قانون الانتخابات