على هامش مناظرة أوباما ـ رومني

تشاهد السجال الكبير بين المرشحين للرئاسة الأميركية، أوباما ورومني. بغض النظر عن مادة النقاش وهي تتعلق بالطبابة والضمانات الاجتماعية والصحية والتعليم والضرائب؛ ترى النقاش مهذباً، كل واحد منهما يحاول أن يقول إن بإمكانه أن يفعل «للمواطن» أكثر من الآخر. كل منهما يتقيد بالوقت المحدد له، وكل منهما منضبط بالوقت الذي يحدده مدير الجلسة، وهو إعلامي عريق. 

نتساءل ما الفرق بيننا نحن العرب وبينهم هم الأميركيون، ولماذا تحصل الرئاسة عندهم بالترشيح والانتخاب فقط، وتحصل السياسة بالحوار فقط؛ وينحصر النقاش بالتفاصيل إذ الخطوط العامة متفق عليها أو معتاد عليها أو فرضت وصار الناس يرونها بديهيات؟ لم يخطئ من قال إن الحزبين الجمهوري والديموقراطي هما جناحان لحزب واحد. ولا تفوتنا الملاحظة أن نظامهم الانتخابي عتيق مفوَّت، لا نسبية فيه؛ الذي يربح الأكثرية في أية ولاية يأخذ كل أصواتها؛ ولم يتعدل هذا القانون منذ استقلال الولايات المتحدة قبل حوالي 240 عاماً.

لدى الأميركيين تنوع هائل في الأديان والأصول القومية والمذاهب. لكن الاندماج الوطني أو القومي ما حصل إلا بفضل الدولة. اضطرت هذه الدولة إلى خوض حرب أهلية عام 1860 مع ولايات الجنوب. كانت من أشرس الحروب في التاريخ. تأسست الولايات المتحدة من 13 ولاية، وهي الآن خمسون ولاية، وكل ولاية حريصة على ما لها وما عليها في إطار الدولة القومية. لا شك أن مؤسسات الدولة الفيدرالية (الدولة القومية) هي الأقوى، وهي التي تفرض نفسها عند اللزوم.

الفرق بيننا وبينهم ليس أن لديهم دولة ولدينا دول، بل هو أنه لديهم دولة وليس لنا دولة. لدينا جامعة الدول العربية، وهي ليست دولة، وكل عضو فيها لا يتمتع بمواصفات الدولة. كل من دولنا لها حدود لكنها فاقدة الشرعية. والشرعية لا تتأتى من التقدم أو التأخر، ولا من نوعية الثقافة التي يتمتع بها شعب ما؛ وليس هناك شعوب تصلح للشرعية وأخرى لا تصلح لها.
الدستور في الاتحاد الأميركي هو ما أسس للشرعية. هو دستور مدني كتبه بضع عشرات من الأشخاص إبان حرب التحرير ضد بريطانيا. الدين مغروز في الدستور كما هو مغروز في الشعب. الحريات في الدستور منحة من الله. لكن لا ذكر فيه لشريعة إلهية.. هو قانون وضعي تأثر واضعوه بفلاسفة أوروبا لما بعد عصر النهضة. تنضم كل ولاية للاتحاد على أساس الدستور، ومن يريد الانفصال تشن الحرب ضد خيانته. تأسست الديموقراطية الأميركية على الاستقلال والاتحاد والدستور. الأهم في هذه الديموقراطية ليس تمثيل الشعب (فهذا تعبير ملتبس) بل هو تداول السلطة، انتقال السلطة من شخص لآخر، أو من حزب لآخر، سلمياً وبالانتخاب. لم تحصل حرب أهلية فيها للحفاظ على فلان أو فلان في السلطة، بل حصلت من أجل الحفاظ على وحدة الدولة، الحفاظ على الاتحاد.

عندنا لا دولة، لأنه لا شرعية.
يحاول الإسلاميون إدخال الشريعة في الدستور، ربما لأنهم غير متأكدين من أن الله يبعث في عباده روح الصلاح والورع. يريدون فرض ذلك بالقوة، بقوة لا تؤسس لشرعية سياسية بشرية إرادية. الإنسانية ليست أولوية الإسلام السياسي عندنا، بل وجهة النظر التي يعتبرونها مشتقة من الشريعة. والأولوية عند بعض خصوم الإسلام السياسي هي للحاكم الذي يرفع نفسه إلى مرتبة الأبدية. والذي لا يسقط إلا بثورة؛ وإذا لم تنجح الثورة هناك الحرب الأهلية.

لعب المثقفون دوراً كبيراً في تأسيس الولايات المتحدة وفي تطورها. كان بينهم الكثير من المتدينين والدعاة. ولم يأبهوا سواء أكانت الدولة علمانية أم لا. المعروف أن أهم الجامعات الأميركية (هارفرد والجامعات العشر الأخرى التي في مستواها) أسسها دعاة دينيون. أولويتهم كانت الاتحاد والمجتمع البشري.
مثقفونا مهمشون أو مهاجرون. حتى في دولنا العربية التي سقطت أنظمتها وتحولت إلى الإسلام السياسي، ما زالت أجهزة الرقابة تمارس عملها. منعوا الكثير من الكتب والأفلام والمسلسلات. وهل ذلك إلا من أجل التأسيس لاستبداد جديد؟

سيطرت الرأسمالية على معظم منابع السلطة في الولايات المتحدة، ووضعت الدولة في خدمتها (بناء على الدستور والقوانين) وكانت، بعد روسيا القيصرية، أكثر الدول الغربية قمعاً للحركات العمالية والشعبية وكذلك للطوائف. يأتي ميت رومني من طائفة المورمون الذين شُنت ضدهم حرب شرسة لطردهم غرباً في أواسط القرن التاسع عشر من جبال روكي إلى ولاية أوهايو ثم إلى ولاية يوتا في جبال الروكي. يقبع في السجون الأميركية حوالي واحد في المائة من مجمل الشعب الأميركي (3 ملايين سجين). لا تستطيع الدولة منع اقتناء السلاح. العنف عندهم ظاهرة متفشية. العنف أساسي في كل تطور رأسمالي. العنف في بلادنا ليس ضرورياً جداً للرأسمالية المحلية. هي أودعت معظم أموالها في الخارج. العنف ضروري جداً للسلطة عندنا.

الإشكالية الأساسية في النقاش بين أوباما ورومني كانت حول زيادة الضرائب أو خفضها؛ وهل يمكن خفض الضرائب مع الإنفاق من أجل الحفاظ على المستوى نفسه من الحماية الصحية؟ سواء كان النقاش مسرحياً أم لا، فإنه يعطي المواطنين شعوراً بأن الدولة تعمل من أجلهم، أو تسعى للعمل من أجلهم؛ أو على الأقل يفرض المواطنون بنودهم على أجندة النقاش. وهذا يعطيهم شعوراً، ولو وهمياً، بأن لهم أهمية لدى السلطة. هذا الشعور، مهما كان مدى الوهم في أساسه، هو قاعدة للشرعية.
لا دولة حيث لا شرعية تبنى عليها. ما يحتاجه العرب هو الدولة ومفهوم الدولة. أصاب التقسيم بلداناً عربية ويهدد أخرى. ما يحمي كل بلد عربي من التقسيم هو الدولة.
  

السابق
محلل الماني عن ضربة تركيا: لأسد مرتاح وبصق بوجهنا
التالي
توقيـع اتفاقية فـرز النفايات وإزالـة مكبّ جبـل صيـدا