بين الاعتذار والاختيار

عتذر بشّار الأسد لأنقرة عن قتله خمسة من مواطنيها أم لم يعتذر، المهم أنه انكفأ أمام الرد المدفعي التركي عليه.. وفوق ذلك، الأرجح أنه اعتذر، فيما عدد ضحاياه من شعب سوريا صار يقارب الخمسين ألفاً إن لم يكن أكثر. وعدد الجرحى ثلاثة أضعاف ذلك. وعدد المعتقلين يفوق المئة ألف. وعدد المفقودين يقدّر بالآلاف. وعدد اللاجئين إلى دول الجوار يقارب الخمسمئة ألف. وعدد اللاجئين الداخليين يقارب الثلاثة ملايين. وعدد البيوت التي دمّرها يقارب السبعمئة ألف.. وعدد القانطين منه ومن ارتكاباته يُعدّ بمئات الملايين في المنطقة والعالم بأسره.

يعتذر مُرغماً لقوة خارجية قادرة على تحطيمه. فيما يقتل السوريين مختاراً، ويدمّر سوريا وأسباب قوتها ومنعتها ورفعتها بملء إرادته وبكامل وعيه الشقي. أي بمعنى ما: يُعربد أمام الضعيف الداخلي وينحني أمام القوي الخارجي. وذلك إنما يؤكد مسلّمة سياسية آتية من أحكام الثقات العارفين بالطبيعة الأولى لنظام آل الأسد، مع السلف والخلف: لا يفهم إلاّ لغة القوة. ولا يرعوي إلاّ أمام التهديد الآيل للترجمة الميدانية.. عندما يشعر بالقوة لا يتنازل وعندما يشعر بالضعف يتخاذل. ودون ذلك يتفنن في الرقص على حافة الهاوية، وسقفه عدم السقوط فيها. وفي ممارسة الابتزاز بالإرهاب تارة وبالمقاومة طوراً، وسقفه عدم ذهاب المناورة إلى حدّ الحرب المفتوحة.

تعوّد على مدى سنوات، أن يقاتل بالواسطة وفي أرض غيره. ثم أن يتبنى الانتصار إذا توفر، وأن ينبذ الانكسار إذا تمظهر.. وكما سلف القول أكثر من مرّة: يساهم في الإرهاب واختراعاته وأشكاله وهيئاته واستخداماته ثم يدخل في المساومة عليه في سوق سياسة مفتوحة إقليمياً ودولياً. ويتغنى بالمقاومة والممانعة ثم يسوّق قدراته الحصرية على ضبطها ومنع تفلّتها.. يُدخل الحرامي إلى بيت الجيران ثم يعرض على صاحب البيت تأمين حراسته! ومبدأه العام بالأمس واليوم: إن السلطة أعزّ من الأرض السليبة. فهذه جزء من مشاع عام ولن تنزاح من مكانها حتى لو كانت تحت الاحتلال. أمّا تلك فهي أساس المُلك الخاص. كل شيء معها. ولا شيء من دونها!

في الرد التركي عليه بالأمس، درسٌ كاد ينساه: للمناورة حدود لا تصل إلى تهديد الأمن القومي التركي.. سبق في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، أن حَفَظَ الأسد الأب ذلك الدرس واتعظ. ناور طويلاً بورقة "حزب العمال الكردستاني". ووفر المأوى والدعم والمساندة لزعيمه عبدالله أوجلان على مدى سنوات في الزمن، وعلى مدى سوريا والبقاع اللبناني في الجغرافيا. لكن ذلك الفيلم وصل إلى نهايته في غضون أربع وعشرين ساعة لا أكثر: حشد الجيش التركي قواته عند الحدود السورية، وأفهم الجالس في دمشق أنه جديّ في حسم الأمر وصولاً إلى الحرب. في غضون ساعات قليلة، نفّذ الأسد ما كان يرفض تنفيذه على مدى تلك السنوات. أُقفلت معسكرات الحزب الكردي في سوريا والبقاع اللبناني. وطار أوجلان من دمشق، ليحطّ في إحدى الدول الأفريقية التي قرّرت سريعاً أنها ليست في حاجة إلى أوجاع رأس إضافية، فسلّمته في ليل إلى الأتراك حيث لا يزال إلى اليوم يقبع في السجن عندهم.

سكت الأتراك راهناً وبإرادتهم وتبعاً لحسابات خاصة وعامة، على اعتداءات الأسد الابن، وعلى عودته إلى استخدام عناصر "حزب العمال" ضدهم، فظنّ أن السالفة النمطية الابتزازية لا تزال سارية المفعول. لكنه وبدوره، عندما تيقّن من الردّ، آثر الانزواء والانكفاء وتقديم واجب الاعتذار… وبلعت أبواقه مع ذلك الاعتذار، كل تهديدات الخراب الصاروخي من تل أبيب إلى اسطنبول!
هنيئاً للأتراك بحكومة مستعدة لاستخدام كل أسلحتها دفاعاً عنهم. والعزاء للبنانيين بحكومة عمياء خرساء تمتنع حتى عن استخدام سلاح الموقف وتكاد تحملهم مسؤولية العدوان عليهم!

  

السابق
انفجار النبي شيت: 34 وحدة سكنية متضررة.. واسرائيل مشاركة فيه !!
التالي
يزبك: سلاحنا دم يجري في عروقنا