لو كنت سمير جعجع…

… لكان أسبوعي الماضي حافلاً بانهماك لم أكن أعهده قط. فبين أحدين اثنين كنت مستنفداً بكليتي للتحضير لكمينين اثنين من نوع غير مسبوق في حياتي.
في الأحد الثالث من أيلول، كنت لبست بنطلون الجينز القديم والقميص المطبوعة بمربعات عريضة. يعرفهما جيداً كل من كان معي في 12 آذار . أيام «الثورة التزام بالمسيح» واقتضاء «التطلب الإنجيلي الكياني» ودو شاردان وعصفور ريتشارد باك، كما كان يحلو لنادر أن يتهكم على كتاب مخدتي «جوناتان ليفنغستون، النورس»… ولكنت مشيت باكراً صوب سيدة الجبل. لا مرافقة ولا حرس. فالهضبة هادئة كسيّدتها. وأنا أعرف معارجها حصاة حصاة، مذ كنت جارها في غدراس. سأتذكر تلك الأيام وليلة 21 نيسان ومشوار الجلجلة. وستمرّ كل الصور وأنا أتسلق صوب الدير، وسأعتبر من ثلث قرن من الخيبات وملامسة الأهداف بشكل عابر، قبل التيه بعيداً مثل سهم ضلّ ولم ينكسر …

فوق، في الدار، كنت سأنتظر حتى يكتمل عقد الرفاق. من خلف ستارة المدخل كنت سأسترق النظر إلى الوجوه القديمة. زمن مضى ولم أرهم. هذا فؤاد قد كبر. كسره السجن كما فعل ببعض مني. هذا جورج رفيق ليالي الخوف والملجأ في كسروانه على عتبة الانتفاضات المتكررة. هذا جوزف، رحم الله شقيقه. كم سالت دماؤنا، وكم هدرناها سدى وجنوناً وهباء وفي غير مكانها. وهذا حنا العائد من منفى شظف وشقاء وبؤس، بعد تضحيته الكبيرة من أجلي في محاكمة داني… متى اكتمل النصاب، كنت سأخرج إليهم فجأة. بلا صفيق، ولا هييص. أعانقهم دمعة دمعة، وأمسح تعبهم وغبار ثيابهم قبلة قبلة. وفي وطأة صمت مفاجأتهم بي، أُخرج لهم هدية مفاجأتي لهم، كلمات قليلة من «المعلم»: من كان منا بلا خطيئة، فليرجم الآخر بأول حجر أو تهمة. حتى إذا ما تهيّبوا استذكار بشارة السيد، وجدت الدرب ممهّدة للتكملة: كلنا أخطأنا يا رفاق. لا بل منذ البداية ربما كنا مخطئين. منذ لم يعد سلاحنا في زمن ميشال جبر وميشال بارتي والشهداء الأوائل، صرنا كلنا مخطئين. منذ صرنا سلطة ومشاريع سلطة وكراسي أرصدة، خسرنا شرطَيْ «المقاومة»: أن تكون انبثاقاً من وجدان جماعة، وأن تكون دفاعاً في وجه خارج معتد. منذ البداية كنّا كلنا على ضلال. لكننا تعلمنا يا رفاق. بعضنا تعلم بالاهتداء صلاةً كما غسان، أو معجزةً كما ريمون، وبعضنا بالإنسان، كما أسعد، وكلنا يجب أن نتعلّم برفض العنف، بكل أشكاله، المادي كما اللفظي كما العميق والمقنع والخبيث والبنيوي، كالذي دأبنا عليه في ما بيننا…

وكنت سأذهب أبعد بمصارحتهم: نحن يا رفاق اليوم بلا مشروع، وفي عين العاصفة. لهذا جئت أصارحكم وأصالحكم، وأتواعد وإياكم على كمين آخر يوم الأحد المقبل، بحثاً عن مشروع خلاص، ودرءاً للعاصفة المنذرة باقتلاع عيوننا…
في الأحد التالي، الأخير من أيلول، قبل يومين بالذات، كان كميني الثاني. في صباح مبكر أكثر كنت دلفت صوب الدير الآخر. هنا تعرفني الحجارة أكثر من وجوه حلفاء هذه الأيام. وأعرف الحفافي أفضل من منزلقات الاستتباع الراهن. هنا زمن النسك والتصوف و«عدة البروباغاندا». كمّ صدّقها شباب فدفعوا ثمنها حياة. هنا أتيت مع كل الرفاق، الذين تصالحت معهم الأحد الماضي والذين لم أفعل بعد. هنا سنقف صفّاً واحداً في كميننا الثاني. بعد لحظات سيصل موكب ميشال عون. لحظة بلوغه أرض إيليج والقطّارة، نرفع فوق رأسه لافتة ترحيب كبيرة، أعددناها ليلاً بنسج من خيوط المعاناة، وكتبنا عليها بحبر الذين لن يعودوا، كلمات للسيد من متى: صالح أخاك، ثم عد وقدّم قربانك…

سيبتسم طويلاً الجنرال عند رؤيتها. وسيفهم انني أردّ له مفاجأته لي في تلك الزنزانة الظالمة في 18 ايار 2005، ومعانقته لي من خلف القضبان، بمصالحة الإخوة الأحرار. حين يغص صوته، وتغرورق عيناه كما الأب المعتّق، سأبادره تحت أنظار إيليج: آن لنا يا جنرال أن نختم الجرح. كفاه نزفاً من هزيمتنا وهجرتنا والنزع. علّمتنا الجراح أن لا أحد منا يملك الحقيقة. بعد أعوام على تدميرنا الذاتي وإعادة قراءة لما مضى وجاء، أعرف وأعترف أن لقاء غازي كنعان على أرضنا تمهيداً لاجتياح بعبدا، ليس فضيلة مقارنة بلقاء بشار الأسد على أرضه تكريساً لسيادة مستعادة. أعرف وأعترف بأن التصادم بين الأخوة حتى الانتحار، ليس فضيلة مقارنة بتفاهم ولو مع مع حزب الله، كي يتجذّر كل أخوتنا في أرضهم بسلام واطمئنان…

وقد لا يكون الجنرال قد استحضر كلامه، حين أفاجئه: ذات يوم من كانون الأول 1990، كان أحد الحكماء يقنعني بدخول حكومة عمر كرامي. قلت له: أعطني سبباً واحداً لذلك، وفيها سليمان فرنجيه مثلاً. فأجابني: أدخل على الأقل لتقفل باب المقبرة الذي فتحته، ثم أخرج منها ومن الحكومة إن شئت. تأخّرت على نصيحته عقدين ونيف. تعال جنرال ندخل الكنيسة معاً، ومعاً نقفل باب القبر، ثم نخرج إلى الحياة، تكفينا تحدياتها والمخاطر… لو كنت سمير جعجع.  

السابق
المعارضة السورية…على خط الدعم الدولي
التالي
هل تندلع الحرب بين حزب الله واسرائيل قريبا؟