حرب الاستقلال ضدّ النظام المولوخيّ

تصميم الشعب السوريّ الثائر على إطاحة النظام البعثيّ الهمجيّ مهما كان الثمن هو تصميم أسطوريّ تتواءم فيه صلابة إرادة البقاء مع خوض لاختبار الموت حتى نهايته المنطقية عندما يكون اختباراً "تناحريّاً" بين نظام فئويّ وبين أكثرية شعب: سقوط النظام، وانتصار الثورة، ونهوض الشعب السوريّ من جديد، حيّاً يرزق، من تحت الركام.

في المقلب الآخر، تصميم النظام البعثيّ الهمجيّ هو أيضاً تصميم أسطوريّ. هو أيضاً ينازع من أجل البقاء، وبإرادة استثنائية قياساً على أيّ نظام عربيّ آخر أدركه ربيع الثورات. الإستعداد العاليّ، وغير المتردّد لحظة واحدة، لإرتكاب مختلف أصناف الجرائم، يبرز هذا إلى حد كبير. ومن بين الذين يستمرّون في دعم هذا النظام أو يتبرّعون له بمبرّرات أيديولوجية إضافية، ثمة من يفتتن في سرّه، أو في علنه، بإرادة البقاء التي يعبّر عنها هؤلاء القتلة.
والطاغية في الحالة السورية ما كان بإمكانه ان يخوض تجربة تدمير البلد على هذا النحو وقتل الناس بشكل يوميّ فظيع، إلا اذا كان يتعامل مع نفسه على أنّه "صاحب حقّ"، وليس فقط "صاحب واجب" أو "صاحب فضل".

على عكسه، لعب الديكتاتوران التونسيّ والمصري ورقة أنّهما أصحاب "فضل" و"واجب". أي أنّ جيلاً أو جيلين عاشا في ظلّهما، وأنّه كانت لهم أفضال عديدة، من "الضربة الجوية" إلى "استعادة طابا" إلى "دحر الإرهاب" إلى "بناء الأنفاق والجسور" في حالة حسني مبارك، إلى "الإستقرار" و"حقوق المرأة" في حالة زين العابدين بن علي. لم يدعيا جديّاً أنّ لديهما الشرعية. أعتبرا أنّهما عوّضا عنها جزئياً بأفضال، يذكرّون الناس بها في مقابل تراكم السلبيات، وأنّ لديهما "واجبا" يستدعي بقاءهما في السلطة إلى حين توفّر البديل. سخر التاريخ المتحرّك منهما طبعاً، إلا أنّ حالتهما شيء وحالة الطاغية البعثيّ شيء آخر تماماً.

فهذا الطاغية يتعاطى مع نفسه ومع عملية تدميره المنهجية للمجتمع والشعب والبلد على أنّه "صاحب حقّ". بمعنى ما، ليسَ يدّعي "الشرعية"، لكنه يدّعي ما هو أخطر منها: أنّه في غنى عنها. إنّه صاحب حقّ مكتسب، منه وفيه، وغير مرتبط بأي توكيل وبأي انجاز وبأي وعد. وهذا الشعور بأنّ الطاغية "صاحب حقّ" على رقاب الناس، بهذا الشكل، هو ما يسهّل للنظام أمر "الحرب الكليّة" الشاملة التي يشنّها ضدّ الشعب السوريّ الثائر. لأنه لو عامل نفسه كصاحب "فضل وواجب" فقط، لما أمكنه تنظيم هذه الحملات الهمجية المتواصلة، ولكان أضطرّه "فضله المزعوم" و"واجبه الموهوم" إلى التردّد، والتفاوض، والتنازل.

إلا أنّه ليس كذلك، فهو "صاحب حقّ"، حقّ على السوريين، حق على رقابهم، حقّ بإحيائهم وإماتتهم. العبارات "الكفرية" المؤلّهة لبشّار الأسد من قبل شبيحته، والتي يجري تناقلها على "اليوتيوب" تمثّل في الحقيقة جوهر هذا النظام: انه يعتبر أنّ الحقّ لا ينبع لا من توكيل شعبيّ، ولا من رضا شعبيّ، ولا من أي معيار أو شرط. بل هو حقّ مطلق على رقاب جميع السوريين، بجواز قتلهم فرادى وجماعات اذا اضطرّ، وأنّ السوريين لما كان أكثرهم ولد بعد وصول "البعث" و"آل الأسد" إلى السلطة، فإنّ النظام هو من أوجدهم "بيولوجياًَ" و"سياسياً".

صحيح أنّ النظام السوري لا يمتلك آليات سيطرة "كلانية" أو "توتاليتارية"، وأنّ حكمه الدمويّ المديد اعتمد أساساً على سياسات "فرّق تسد" الكولونيالية في المجتمع السوريّ ولم تكن له قدرة على إعادة الهندسة الإجتماعية لهذا المجتمع لتحويله على صورة عقيدة شاملة ومثالها. إلا أنّ هذا النظام "توتاليتاريّ نفسياً": يوهم نفسه بأنّ له "حقّ سرّي" على سوريا "إلى الأبد"، وأنه باسم هذا الحق يتحكّم بالحياة والموت.

لأجل ذلك كلّه، فإنّ حرب الإستقلال السوريّة عن هذا النظام، هي اليوم حرب لها بالفعل بعدُ دينيّ: إنّها حرب ضدّ نظام يؤّله نفسه، كتعويض عن افتقاده المطلق لأيّ من أسباب الشرعية، بل أيّ من مزاعم الفضل والواجب. من هنا، فالثورة مدعوة أيضاً لفهم هذا البعد الدينيّ لها، كونها تواجه نظاماً يؤلّه نفسه لتبرير قتل أكبر عدد ممكن من السوريين، نظاماً مولوخياً، نسبة للإله الدمويّ "مولوخ" في الأساطير السورية القديمة، وليس نظاماً "علمانياً" كما يدّعي بعض شبيحته الإعلاميين. وبقدر ما تفهم الثورة السورية بعدها الدينيّ، ضدّ هذا النظام المولوخيّ التأليهيّ لنفسه، بقدر ما أنّ هذا الفهم يمكنه أن يتيح لها حسم خيارها لتكون ثورة في إتجاه التصالح الحقيقيّ مع الحداثة، ومع الديموقراطية، ومع ثقافة روح الإنسان، ومع روح العصر.
 

السابق
وهاب: لماذا تبرع سماحة شغلة قذرة؟
التالي
ضابط سوري: يمكن نقل الأسلحة الكيميائية إلى حزب الله !!