هذا دور إيران المركزي فـي التغيّـرات القادمة على المنطقة

لا خلاف على أن أميركا تواجه ورطـــة مع الأمـــة العربية. وليست هذه الورطة نتيجة للأزمة التي نشأت عن عرض الفـــيلم الامــيركي الإنــتاج المسيء الى رســـول الإسلام. بــل الواقــع ان ازمة هــذا الفيلم هي بحــد ذاتـها نتيجة لهـذه الورطة ووجه من وجوههـا وليست سبباً لها.
انما الواقع الــذي لا بد من التنبه اليه هــو ان امــيركا تواجــه ورطــة من نـــوع آخر، قد لا يقــل أهمــية، فـي علاقــاتها مع اسرائيل.

الورطة مع الامة العربية قديمة وممتدة، ونكاد ان نقول شاملة، حتى بعد التطورات الاخيرة المسماة بالربيع العربي الذي هيأ وضعاً اكثر ملاءمة للنفوذ الاميركي العسكري والسياسي والثقافي ايضاً. اما الورطة مع اسرائيل فهي جديدة تماماً وليست جزءاً من الورطة الاميركية العربية، انما هي جزء من الاستراتيجية الاميركية في الشرق الاوسط، وبصفة خاصة جزء من المواجهة الاميركية – الإيرانية والأزمة المتفاعلة بين إيران وإسرائيل. ولا شك ان الجانب الأكبر من تداخل الورطتين يرجع الى إصرار بعض الانظمة العربية على إعطاء اولوية العداء لإيران على العداء لإسرائيل. او بالاحرى إصرار هذه الأنظمة الحاكمة على مسالمة إسرائيل والإصرار على موقف عدائي من إيران على الرغم من ان عداء ايران لاسرائيل ينبغي ان يكون اساساً لاستراتيجية عربية جديدة في المنطقة.

الولايات المتحدة، على الرغم من ورطتها الجديدة مع اسرائيل، تبدو اكثر ارتياحاً الى الحالة الراهنة بين الانظمة العربية وإيران. ربما لأنها تتلمس في هذه الحالة فرصة اوسع لعلاقات سوية بين الانظمة العربية واسرائيل. لهذا ترقب واشنطن باهتمام شديد احتمالات العلاقات العربية ـ الايرانية مع تركيز خاص على حالة مصر، بخاصة بعد ما تبين من احتمالات تقارب بين النظام المصري برئاسة محمد مرسي وايران على اثر قمة الدول غير المنحازة في طهران، وما تم من اجتماع بدا ودياً بين الرئيس مرسي والرئيس الايراني احمدي نجاد. مع ذلك، فإن العامل الرئيسي في هذه التعقيدات كلها يتعلق بما نعتبر انه الورطة بين الادارة الاميركية برئاسة باراك اوباما والادارة الاسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو. ولا بد في هذا المجال من ملاحظة ان الورطة الاميركية ـ الاسرائيلية، وإن اقتصرت على اختلاف التوجهين الاميركي والاسرائيلي نحو ايران فإنها تفتح ابواباً عديدة لاختلافات باقية حتى الآن تحت السطح بين الحليفين الاستراتيجيين.

لكن لا بد، بداية، من محاولة فهم تفاصيل الخلافات الاميركية ـ الاسرائيلية بشأن المعضلة الايرانية. ان عدة سنوات من التلويح بحرب هجومية اسرائيلية او اميركية او ثنائية على ايران بسبب برنامجها النووي الذي يكسر احتكار اسرائيل للطاقة النووية في منطقة الشرق الاوسط، على الرغم من التباين الواضح بين سلمية البرنامج النووي الايراني وعسكرية البرنامج النووي الاسرائيلي ـ قد اسفرت عن تراكم الخلاف بين الدوافع والتقديرات الاميركية والاسرائيلية بشأن البرنامج النووي الايراني. وصحيح ان التعاون المخابراتي بين اميركا واسرائيل في هذا الصدد يصل الى اقصى الدرجات الا انه اسفر في النهاية عن اختلافات بين الدولتين والمخابرات في كل منهما بشأن النتائج التي يمكن ان تسفر عنها حرب هجومية فردية اوثنائية على ايران. التقديرات الاميركية تذهب الى ان ايران قادرة على الصمود في وجه مثل هذا الهجوم، بل والرد عليه بدرجة شديدة الإيلام والضرر. والتقديرات الاسرائيلية تفضل الاستهانة بهذه الاحتمالات لرد ايراني قاس على الهجوم. لا شك ايضاً ان الجانب الاميركي له رؤية اكثر اتزاناً من الجانب الاسرائيلي لقدرات ايران العسكرية، كما ان له رؤية للأغراض السياسية التي تكمن وراء المخططات الهجومية الاسرائيلية على ايران. فإن هذه الاغراض السياسية تتجاوز كثيراً حجم مشكلة البرنامج النووي الايراني، وتهدف الى ايجاد حالة من الرهبة والخوف في المنطقة حتى لا تفكر اي من بلدانها في اللحاق بإيران نووياً.

 
مع اقتراب وقت إجراء الانتخابات الرئاسية الاميركية، تصاعدت حدة الخلافات بين المرشحين الديموقراطي، الرئيس اوباما والمرشح الجمهوري، ميت رومني، حول السياسة الاميركية في الشرق الاوسط. وقد تميزت المرحلة الاولى من الحملة الانتخابية الاميركية بالتنافس التقليدي المعروف بين المرشحين المتنافسين على نيل رضاء اسرائيل وتأييدها كضمانة لا بد منها لكسب اصوات اليهود الاميركيين. ولكن المرشح الجمهوري رومني آثر الوصول الى حـــدود قصوى في طلب التأييد الإسرائيلي واليهودي ـ اي الصهيوني اجمالا ـ الامر الذي دفعـــه الى زيارة اسرائيل وإعلان تأييده لسياسات نتنياهو، ليس فقط في ما يتعـــلق بإيران، انما حتى بشأن القضية الفلسطينية. بلغ رومني اقصى الحدود الممكنة في وعوده لاسرائيل الى حد اكســبه انحيازاً صهيونياً في اميركا لم يستطع اوباما ان يجاريه. ووصف بعض الكتاب الصحافيين الاميركيين ما فعله رومني بأنه اشبه ما يكون بمن «يطلق الرصاص على قدميه، بل لعله اطلق الرصاص على نفسه في اجزاء اخرى من جسمه» (الان هارت، انفورميشن كليرنغ هاوس، 19/9/2012).
ولم يلبث رومني ان اوقع نفسه في خطأ انتخابي خطير عندما قال انه لا يعتبر ان من مهامه ان يهتم بشأن اولئك الذين قدرت نسبتهم المئوية بنحو 47 في المئة من الأميركيين الذين يعتقدون انهم ضحايا وأن الحكومة الاميركية مسؤولة عن رعايتهم. وفي حيرة البحث عن مخرج من هذا الخــطأ الانتخابي لم يجد رومني مخـــرجاً إلا الاعتماد على الصوت اليهودي.
ولا بد هنا من الاشارة الى ان الصـــوت اليهودي في اميركا لا يتجاوز نسبة اثنين الى ثلاثة في المئة من الناخبــــين. وهذه نسبة لا تستطيع ان تعوض فقدان نسبة 47 في المئة من الناخبين. وقد علق الكاتب هارت على هذا بقوله «ان كلمات رومني هي ما يـــردده أصحاب الملايين الذين يشعرون بالرضى عن الذات في ما بينهم. ومن ثــم فإنه يعزز وجهات النظر السلبية للغاية لدى الناس عن رومني». وتساءل هارت بعد ذلك مباشـــرة «ترى ماذا يمكن ان يقـــول رئـــيس الوزراء الاسرائيلي نتــنياهو حينما يبلغه الذين يتبنونه من الامــيركيين ربما في خلال الايــام المقبــلة ان رومني لن يــفوز» (في انتخـابات الرئاسة)؟
يزيد من حرج نتنياهو في انتخابات الرئاسة الاميركية انه اصبح يعرف ان اوباما لن يتورط في حرب على إيران. فهو يعرف ان ادارة اوباما انخرطت في خلال الاشهر الماضية في مفاوضات غير مباشرة مع ايران من خلال طرف ثالث.

وهذا يعني ان اوباما مصمم على إنهاء ازمة الملف النووي الايراني بالوسائل السياسية، وليس بالوسائل العسكرية. وهذا التطور يضع نتنياهو امام اختيار يبدو له وحيداً هو ان تشن اسرائيل بمفردها هجوماً حربياً على ايران. اي ان تتنازل اسرائيل نهائياً عن المطلب الذي اصرت عليه منذ سنوات، وهو ضرورة الحصول على مساندة عسكرية اميركية لهذا العمل. وليس خافياً في هذا الصدد ان الكونغرس الاميركي يتخذ موقفاً اقرب الى موقف اسرائيل، وإن كان التصويت الاخير في مجلس الشيوخ الاميركي ضد وقـــف المساعدات الامـــيركية لمصر يؤكد ان اسرائيل لا تستطيع ان تعــتمد على تأييد هذا المجـــلس لها في شن هجوم على إيران. فقد اتــضح ان اللوبي الصهيوني لم يستــطع ان يمارس دوراً مؤثراً عنــدما جاء دور التصويت على وقـف المساعدات لمصر.

ولعله لا بد من إشارة في هذا السياق الى ان بعضاً من الكتاب الاميركيين الذين لم يعرف عنهم من قبل معارضة اللوبي الصهيوني في اميركا اصبحوا يعبرون عن نفور شديد من ممارسات هذا اللوبي في الكونغرس. وينبغي هنا الاشارة الى ان جو كلاين الكاتب المرموق في اسبوعية «تايم» الاميركية وصف النفوذ الصهيوني بأنه «مثير للغضب والاشمئزاز، بقدر ما هو مثير للسخرية ووقح».
وبطبيعة الحال فإن المواقف الاكثر رصانة التي تتخذها ادارة اوباما انما ترجع اساساً الى تغيرات حقيقية تسبقها في مواقف الرأي العام الاميركي. فإن استطلاعات الرأي العام قد اظهرت في الاشهر الاخيرة ان غالبية الاميركيين لا تريد ان تذهب الى حرب ضد ايران حتى اذا قررت اسرائيل ان تشنها.

ولعل اهم هذه الاستطلاعات ما أجراه «مجلس شيكاغو للشؤون الخارجية» وأظهر ان اقلية الاميركيين (38 في المئة) تؤيد المشاركة مع اسرائيل في حرب على ايران، بينما غالبية الاميركيين (58 في المئة) ترى انه اذا بدأت اسرائيل حرباً مع ايران، فلا ينبغي على الولايات المتحدة ان تقفز للدفاع عن اسرائيل (17/9/2012).
يتساءل الان هارت في اواخر مقاله، الذي اشرنا اليه من قبل، «ترى هل نتنياهو على درجة كافية من الجنون لكي يصدر اوامره بهجوم على ايران في ما تبقى من وقت على نهاية فترة رئاسة اوباما الاولى بدون ان يحصل على مباركة من الرئيس الاميركي ومشاركة اميركية (في هذا الهجوم)؟» ويجيب هارت: «من يدري؟».

ان ما نحاول ان نرصده من تباعد في المواقف بين الولايات المتحدة واسرائيل يتضحأكثر من شهادات الكتاب الاميركيين الذين يرصدون ما اسماه احدهم «بحر من التغيير في العلاقات الاميركية -الاسرائيلية». وهو عنوان اختاره ديف اندورف وهو كاتب يهودي اميركي اختار ان ينشر مقاله هذا في موقع «الفيسبوك» (19/9/2012) وهو يتنبأ هنا بحدوث بحر من التغيــير في العلاقات الاميركية ـ الاسرائيلية وأيضاً في العلاقات الاميركية العربية والاميركية الاسلامية. وهو يرى ان بعض الاحداث التي تمر بها هذه العـــلاقات مثل الهجمات على مقرات السفارات الاميركية نتيجة لعرض الفيلم المسيء للرســـول يمكن ان تمنع رؤية التطورات الجارية التي تتميز بالإيجابية. بل ان ليندورف يتوقع ان تكشف الاسابيع او الشهور القادمة عن تطورات ايجابية في علاقات اميركا بهاتين الجبهتين. يلفت النظر بالتأكيد في هذا المجال ان الصحف اليهودية الاميركية بدأت تعبر عن مواقف معارضة للتطابق مع المواقف الاسرائيلية بدلا من الاقتراب اكثر نحو المواقـــف الاميركية. وهو ما حذرت منه مؤخراً صحيفة «فوروارد « اليهودية الاميركية التي كانت تتمسك حتى وقت قريب بدعم مواقف اسرائيل الى اقصى حد. وقـــد عبرت هذه الصحيفة مؤخراً في احدى افــتتاحياتها عن معارضة لموقــف اسرائيل الرامي الى شن حرب على ايـــران بصرف النظر عما يكون عليه موقف الادارة الاميركية. ووصفت «فوروارد» هذه الحـــرب بأنها «لا تتمتع بأي شعبية في امـــيركا وتنطوي على مخاطرات شديدة».

وأضافت «اننا بالـــتأكيد نأمل ان يكون نتنـــياهو دارياً ما هـــو مقدم عليه لأن الاخطار التي تنطـــوي عليها (مثـــل هذه الحــرب على ايران) تتضمن كثيراً من الاخطار على البلدين (اميركا واسرائيل)».
ان معرفة كافية بشخصية نتنياهو ـ ذي التربية الاميركية والصهيونية معاً ـ تدل على انه سيبذل اقصى ما باستطاعته للتخلص من اوباما كرئيس للولايات المتحدة. وسيلجأ نتنياهو في هذا الى كل الأساليب المشروعة وغير المشروعة. ولكننا لا نتوقع له اي نجاح الا في زيادة حدة المعارضة ضد النفوذ الصهيوني في اميركا.
الوضع العام في منطقة الشرق الاوسط يبدو من هذه الناحية المتعلقة بتغيرات الرؤية الاميركية مناقضاً تماماً للوضع العام الذي تصوره احداث المنطقة. وإزاء هذا التناقض يصبح من الضروري التعامل بحذر بالغ ازاء جانبي هذا الوضع: الاميركي بخاصة اذا فاز اوباما بفترة رئاسة ثانية، والاسرائيلي بخاصة اذا اقدم نتنياهو على مغامرة الهجوم على ايران. 

السابق
أنا محمد الفلسطينيّ
التالي
قبلان قبلان كرم قائد اليونيفل في ميس الجبل