كيف نخرج من الجحيم البشري؟

لماذا كل هذه الحروب والصراعات والشقاء في المجتمعات البشرية؟ ما سببها والدافع إليها، وكيف يمكن الخروج من جهنمها؟

"كوكب الأرض قبل 114 مليون سنة. صباح أحد الأيام وبعد لحظات من انبلاج الفجر: الوردة الأولى في التاريخ تتفتح لتلقي أشعة الشمس. قبل هذا الحدث الرائع، الذي دشّن تحولاً تطورياً ضخماً في حياة النباتات، كان الكوكب يكتسي برداء أخضر لمئات ملايين السنين. الوردة كانت نادرة لأن الظروف لم تك مؤهلة بعد لاستقبالها، لكن في يوم ما تم عبور المرحلة الحرجة وحدث انفجار في تفتح الزهور والرياحين والعطور في كل أنحاء الأرض".

بهذه الصورة الجميلة يبدأ المؤلف الألماني الأصل إيكهارت تول كتابه "الأرض الجديدة" (* ) الذي تُرجم إلى 33 لغة وأصبح مرجع كل باحث عن "الحقيقة الجديدة" و"الحياة الجديدة"، في عالم يعج بالكوارث والمآسي والحروب والنزاعات.
لماذا اختار المؤلف الوردة للانطلاق في مشروعه التنويري؟ لأنها الأمر الوحيد الذي أحبه البشر، من دول أن تكون له وظيفة مادية تتعلق بصراع البقاء. وبذا كانت الورود، خاصة البيضاء منها، هي الجسر الذي يعبره الوعي البشري من عالم المادة والشكل إلى عالم الجوهر واللاشكل والوعي الصافي حيث تقطن الحقيقة: حقيقة أن كل شيء في الوجود واحد مُوحّد متصل ببعضه البعض بشكل لافكاك فيه.
لكن، لماذا لم يصبح هذا الوعي الصافي هو القانون وبقي الاستثناء في كل التاريخ البشري؟ لماذا سيطر الوعي الزائف الذي يوحي لنا بأننا مخلوقات أنانية يجب أن نقتل كي نعيش، ونعيش كي نقتل؟
تول يورد سببين:
الأول أن الحضارات البشرية عجزت عن فهم رسالة الأنبياء وكبار الفلاسفة الذين برزوا ليبشّروا بالسلام الداخلي لدى كل إنسان وبين كل البشر، فعمدت إلى تشويه هذه التعاليم وحوّلتها إلى أنظمة معتقدات إيمانية وإديولوجية منغلقة على ذاتها. وهكذا تم، على سبيل المثال، تحويل السيد المسيح من داعية سلام ومحبة إلى رسول حروب، وانقلب دور المُصلح بوذا من مبشّر يدعو إلى إدارة الظهر للأنانية والأنا إلى إله أناني، ووُظّف الأنبياء في خدمة العصبية اليهودية المدمّرة والعنيفة.
السبب الثاني هو أن الحضارة البشرية لم تنضج بعد بما فيه الكافية كي تُحقق النقلة التطورية الكبرى من الأنا إلى الوعي الجمعي الصافي الذي سيخلق "الأرض الجديدة". إنها تحتاج إلى حدث ضخم يجبرها على العبور نحو هذه النقلة، تماماً كما حدث في مسار تطور الحياة على الأرض حين أجبرت الظروف الطبيعية المخلوقات البحرية على مغادرة حياتها السهلة في المحيطات حيث الجاذبية ضعيفة إلى اليابسة على رغم شظف العيش فيها.
تول لايفصح عن طبيعة هذا الحدث الضخم. لكن من الواضح أنه يوميء إلى التغييرات الهائلة التي سيجلبها تغيّر المناخ على كلٍ من ظروف الحياة وعلى طبيعة الوعي البشري لمعنى الحياة والوجود.
عدو تول الأكبر هو "الأنا"(The ego) الذي هو مصدر كل الشرور، ليس فقط تلك المتعلقة بالحقد والكراهية والشراهة والإجرام، بل أيضاً بعملية تشويه الوعي الصافي عبر جعله يقتنع بأن مايراه في العالم المادي هو الحقيقة، وبالتالي حرفه عن رؤية الوحدة الروحية العميقة التي تنساب في كل الكون والتي تقود مباشرة إلى المنبع الرئيس: الله.
لكن، لماذا يفعل "الأنا" ذلك؟

لأن ثمة وباء يجتاح كوكب الأرض اسمه التعاسة، والسلبية، وفقدان السعادة. وهو وباء يجعل كل البشر، أو الكثرة الساحقة منهم، تعيش في جهنم داخلية حقيقية على الأرض، وفي حالة حروب دائمة بين بعضهم البعض ومع أنفسهم.
المسؤول الأول والأخير عن نشر هذا الوباء هو "الأنا" البشرية (Ego)، التي يعرّفها المؤلف بأنها ذلك الصوت الداخلي في العقل التي تُحرّك فينا انفعالات الحقد والكراهية والغضب والانانية وأساساً الخوف.
الخوف مِمَّ؟
من الموت، من اللاوجود، من أن نكون لاأحد. الخوف أيضاً من المرض والكهولة وخسارة الوظيفة أو العمل أو الثروة أو المكانة الاجتماعية.
هذه الأنا الأنانية التي تُسيطر على الإنسان في معظم مراحل حياته لاتعتاش ولاتتغذى سوى على الألم والتعاسة، ولذلك فهي تثير فينا بشكل دائم الشعور بالخوف أو اللاأمن، وفي المقلب الأخر الغضب وحتى العنف.
لقد اعتاد الفلاسفة والمناطقة التمييز بين العقل والغريزة، فخصّوا الأول بالوعي والإدراك والثاني باللاوعي والانفعالات. وعلى رغم ان تول لايرفض هذا التمييز، إلا انه يلفت إلى أن الأنا الأنانية تسيطر على كل من العقل والغريزة، وعلى الوعي واللاوعي معاً، وتصبح هي الحاكم بأمره الذي يوجهنا كما نشاء من دون أن ندري.
وهذا الأمر يمكن استشفافه بسرعة حين نراقب كيف نفكّر، وبماذا نفكّر، في لحظة ما، خاصة في المراحل الانفعالية، حيث تُجبرنا الأنا على اجترار حادث مؤلم حدث لنا ربما قبل عشرات السنين. وهكذا نجد أنفسنا ندور في حلقة من الأحقاد والكراهية والعذاب لانهاية لها.

الأنا تُسيطر علينا عبر أحد طريقين: إما بث الحياة دوماً بالماضي الذي ربما شهد حوادث أو تطورات مؤلمة لنا، كخيانة صديق أو موت عزيز أو صدمات عاطفية في الطفولة تركت ندوباً عميقة في أنفسنا. أو من خلال تحريك نزعة الشعور باللاأمن لدفعنا إلى العمل المضني طوال حياتنا لتوفير مايكفي للرد على هذا الشعور القاتل، فتُصبح كل أيامنا رهناً في مستقبل لا (ولن) نعيشه في الحاضر.
ثمة هنا واقعة لطيفة عن استراتيجية الأنا هذه.
تانزان وإيدكو راهبان بوذيان كانا يسيران في طرق جبلية وعرة تعج بالوحول بسبب الأمطار الغزيرة. وحين اقتربا من إحدى القرى، شاهدا إمرأة شابة تحاول قطع الطريق لكنها لاتستطيع بسبب الوحول، فعمد تانزان، وهو معلّم إيدكو، إلى حملها على ظهره ونقلها إلى الضفة الأخرى. بعد خمس ساعات من هذا التطور، لم يستطع التلميذ كبح جماح نفسه، فانفجر صائحاً بالمعلم:" لماذا حملت المراة على ظهرك. يُفترض بنا نحن الرهبان ألا نقترب من النساء". فابتسم تانزان ورد بهدوء: لقد أنزلت الفتاة عن ظهري قبل ساعات طويلة، فلماذا أنت لازلت تحملها".
الآن، تخيّلوا أي حياة نعيشها جميعاً ونحن نراكم كل هذه الأفكار والذكريات السلبية ونرفض أن نطوي صفحتها. إننا نجتر الألم مراراً وتكراراً إلى مالانهاية. وهذا بالتحديد مايفعله 6 بلايين بشري يعيشون على هذه الأرض. إنهم يرخون الزمام للأنا الأنانية، فتقوم هذه الأخيرة بتوليد مشاعر الحقد والألم التي تتغذى من مزيد من الحقد والألم.
بيد أن هذه الدراما الإنسانية قد تكون لها نهاية. ونهاية سعيدة أيضا.
كيف؟  

السابق
جمعية براء توزع القرطاسية لطلاب صيدا القديمة
التالي
سلام: الوقت لم يعد يسمح إلا بتعديلات على قانون الستين