حزب الله وحربه الإستباقية ضد الخيار الشيعي

لا يمكن تفسير الحملة التي أطلقتها إحدى الصحف الزميلة تحت عنوان "ويكيليكس-شيعة فيلتمان" إلا باعتبارها حرباً استباقية يقودها "حزب الله" ضد الشخصيات الشيعية المستقلة.

ولا شيء كان يستدعي بالمبدأ إعادة نبش برقيات "ويكيليكس" التي استنفدت واستهلكت وانتهت مدة صلاحيتها، لا بل باتت موضوعياً سخيفة، لو لم يجد فيها "حزب الله" مادة يتيمة وممجوجة يستخدمها في محاولة لضرب صدقية الشخصيات الشيعية المستقلة داخل بيئتها بغية ترهيبها وتخويفها ودفعها إلى الانكفاء عن ممارسة أي نشاط سياسي، وذلك استبعادا لولادة تيار شيعي جديد أو خيار شيعي ثالث.

فتوقيت إعادة نشر هذه الوثائق إذاً مصطنع وغير بريء ومفتعل، ولكن على رغم مساوئ هذا الأسلوب الذي يبيح لنفسه الاجتزاء من الوثائق وتحويرها عن سابق تصور وتصميم تشويها لسمعة خصمه واستخداما لمطلق أي وسيلة تمهيدا لضربه والانقضاض عليه، فإنّ في هذا المشهد، على رغم سيئاته، إيجابيتين يقتضي تسجيلهما:

الإيجابية الأولى، تتصل بالوضع السوري وإدراك "حزب الله" الضمني أنّ حليفه آيل إلى السقوط الحتمي، هذا السقوط الذي سيولد ارتدادات هائلة على مستوى المشهد السياسي اللبناني برمته وفي طليعته الشيعي، الأمر الذي يستدعي، بعرف الحزب، اتّخاذ جملة خطوات استباقية تهدف إلى إبقاء القديم على قدمه بمنع اللبنانيين من الاستفادة من المتحوّل السوري توسيعاً لهامش قرارهم السياسي وتعزيزاً لسيادتهم. فالحزب في هذا المعنى يعمل في الوقت عينه على خطين متوازيين: مواصلة مصادرته السطة التنفيذية وقرار الطائفة الشيعية، وهو بقدر تمسّكه بالأولى ليس في وارد التهاون في الثانية.

الإيجابية الثانية، تتعلق بالوضع الشيعي نفسه، إذ لولا إدراك "حزب الله" وجود تربة خصبة لتيار شيعي ثالث وبيئة حاضنة للمعارضة الشيعية، لما كان مضطراً إلى افتعال هذه المواجهة. ولكن على رغم عجز المعارضات الشيعية عن تنظيم نفسها وتوحيد جهودها عبر إنشاء لقاء سياسي يعكس وزنها وحجمها، إلا أنّه لا يمكن تجاهل حقيقة وجود معارضة شيعية فعلية وتنوع خلاق داخل هذه الطائفة.

وقد أدّى أيضا دخول السيدين هاني فحص ومحمد حسن الأمين على خط تظهير عمق التناقض مع توجّهات الحزب إلى تزخيم هذه الحالة نظراً إلى رمزيتهما، ولعل أكثر ما استدعى انخراطهما يتّصل بالثورة السورية نتيجة مخاوفهما من أن يفضي تأييد "حزب الله" الأعمى للنظام السوري إلى انزلاق الوضع نحو فتنة سنّية-شيعية تُشعل المنطقة برمّتها، فضلا عن تحسسهما مدى حراجة الوضع الشيعي في العالم العربي في ظل تصويرهم، عن خطأ، أنّهم جاليات إيرانية.

كما أن عمليات الخطف التي حصلت في سوريا والمقصود منها إيصال رسالة واضحة أنّ الوجود الشيعي لم يعد مرغوباً فيه ضاعفت من مسؤولية القيادات الشيعية لتبديد هذه الصورة أو الحد منها في محاولة لتشكيل شبكة أمان تحمي الطائفة من مغامرات الحزب وسياساته.

ولا شك أنّ هذا الحراك داخل الطائفة الشيعية، الذي تلقّى الضربة الأولى في التحالف الرباعي والضربات المتلاحقة في عدم التعاطي معه كشريك فعلي من المفتي علي الأمين إلى الدكتور محمد عبد الحميد بيضون، وما بينهما مروحة واسعة من النُخب تبدأ مع محمد حسين شمس الدين ولا تنتهي مع سعود المولى ونديم قطيش و علي الأمين، ما زال يشكّل الهاجس الأساسي لدى "حزب الله" الذي يحاول الالتفاف عليه، لأنّ نجاح هذا الحراك في تظهير نفسه يشكّل الضمانة لقيام كتلة وطنية تقود لبنان إلى شاطئ الأمان، فيما حصر التمثيل الشيعي بهذا الحزب سيبقي الوضع اللبناني مأزوماً ومعلقاً حتى إشعار آخر. وبالتالي الحل الوحيد لإخراج البلد من عنق الزجاجة هو قيام كتلة تمثل كل الطوائف وتعمل على تطبيق الدستور وتطلق ورشة قيام الدولة.

وفي موازاة الحراك الشيعي، ثمّة مسؤولية كبرى على قوى 14 آذار لملاقاة هذا الحراك، ويجب أن يكون هذا الموضوع على رأس أولوياتها للخروج من معادلة إمّا حكومات الوحدة الوطنية التي أثبتت عقمها بسبب شلّها وتعطيلها من قبل الحزب، أو حكومات اللون الواحد المشكّك أصلا في تمثيلها، وهذه المسألة لا يفترض أن تكون بنت ساعتها بل تتطلب وضع خريطة طريق جدية للشبك مع القوى الحيّة داخل هذه الطائفة عوضاً عن التسليم بالأمر الواقع بذريعة أنّ هذه القوى عاجزة عن تنظيم صفوفها.

وإذا كانت مجموعة عوامل وظروف أدّت إلى توقف انتفاضة الاستقلال عند حدود الطائفة الشيعية، فإنّه من غير المسموح أن تتكرّر التجربة عينها مع الربيع السوري الذي سيُعيد تجديد الربيع اللبناني، لأنّ لبنان سيكون من أكثر المستفيدين من سقوط النظام السوري، خصوصاً أنّ الربيع السوري شكّل مساهمة كبرى في إطلاق الربيع الشيعي، ومن دون هذا الربيع لا يمكن لانتفاضة الاستقلال أن تجدّد نفسها.  

السابق
كوابيس الأمة النائمة
التالي
خـطّ فاصـل