ثورات العرب … و مناهضة التطبيع

ينتمي شعار مناهضة التطبيع , إلى واقعة العجز الرسمي العربي , عن إسقاط إتفاق "كامب ديفيد" , المصري – الإسرائيلي , في سبعينيات القرن الماضي .

عجز جرى التعويض عنه , بإعلان سياسة عزل النظام المصري , وتجريده من عضويته , في جامعة الدول العربية , فضلاً عن قيادته , لهذه المؤسسة .

و هكذا , تم نقل مقر الجامعة إلى تونس العاصمة , وانتهت أمانتها العامة للشاذلي القليبي وقتذاك
كما ينتمي الشعار سالف الذكر , إلى واقعة أخرى , تؤشر إلى عجز المعارضات الشعبية و الحزبية . عن تعديل مسار الأحداث الكبرى سواء داخل مصر أو على مستوى الشعوب العربية الأخرى , نظراً لسيادة أنظمة الإستبداد المطلق .

و على الرغم من كثرة الفعاليات الرسمية , و الحزبية , والنخبوية , التي أطلقت في العقود الأربعة الماضية . لم تفلح تلك القوى , في تحويل شعار مناهضة التطبيع , إلى واقع نضالي راسخ , له تعبيراته الواضحة في حياة الشعوب العربية , وسلوكها اليومي , لا بل غالباً ما اتخذت الفعاليات تلك , طابعاً دعاوياً , وتحريضياً , وحضوراً إعلامياً يطفو و يغوص على قاعدة رد الفعل , يعلو و يهبط , وفق الإحتياجات و في المناسبات , كالإحتجاج على الإعتراف الموريتاني بدولة إسرائيل , أو فتح مكتب إتصال إسرائيلي في قطر , أو غيرها من الأحداث الصغيرة , التي تحصل في المحافل الدولية , عند الإحتكاك المقصود أو العفوي بين الشخصيات العربية و الإسرائيلية .

مع الوقت , واجهت أطروحة مناهضة التطبيع تحديات حاسمة , فرضتها توقيع إتفاق وادي عربة الإسرائيلي – الأردني و قبله توقيع إتفاق أوسلو , الفلسطيني – الإسرائيلي , وأخيراً المصالحة العربية المصرية . حيث عادت من جديد , جامعة الدول إلى مقرها الدائم في القاهرة . كما عادت الأمانة العامة إلى سابق عهدها . هكذا لم تعد أطروحة مناهضة التطبيع , قادرة على الحفاظ على بريقها أو الحفاظ على قوة الدفع اللازمة لتسيّد المشهد السياسي , الرسمي و الشعبي , أو التأثير الفعلي في الحدث اليومي في المنطقة على الرغم من إستمرار محور " المقاومة و الممانعة " في إنشاد نشيده الخاص , بنسخته السورية أو الليبية أو الإيرانية .

حالة خاصة و نتيجة منطقية :
ثمة من ذهب إلى إدانة الحراك الثوري العربي , من باب إستنكار غياب شعارات تحرير فلسطين , فضلاً عن شعارات هزيمة الغرب الإمبريالي .. !! واعتبار ذلك برهان لا يرقى إليه الشك على المؤامرة الموصوفة , ببعدها الكوني .. !! .

إلا أن أغلبية النخب الفلسطينية , بصفتها معنية مباشرة بما تقدم الإشارة إليه , تعاملت مع هذه الظاهرة بإيجابية عالية . و نسبتها إلى إدراك المواطن العربي العميق , وإمساكه بلب المسألة التي تعبر عنها كلمتين . الكرامة و الحرية .. أولاً .. و بعدها .. وكل شيء يصبح في نصابه الحقيقي .
إن إمتلاك الحرية , أي الإرادة الخاصة المستقلة , والسير نحو إنجاز نظام سياسي ديمقراطي حديث أصبحا الشرط اللازم و الضروري لصناعة المستقبل و لإطلاق المخزون الشعبي المؤيد لنضال الشعب الفلسطيني .

إن هذه الظاهرة وجدت ترجمتها عبر يافطات رفعها الثوار العرب في أكثر من مكان تقول " عذراً فلسطين لم و لن ننساك " . إن عدم الحضور الصريح لفلسطين كقضية في المشهد الصراعي العنيف لا يعني الغياب بقدر ما يعني أن , الإستبداد الإستثنائي إستطاع إلغاء الفرد بصفته مواطن , و دهس كيانه , بل سحق إنسانيته في ماكينة الأمن المتوحشة , كما يعني أن الإعلام الشمولي الكاذب , أدى إلى عزوف المواطن عن الشعارات اللفظية , التي استعملت في مواجهته و ليس في مواجهة الأعداء . و خير ما يعبر عن هذا الأمر ما يجري اليوم من ذبح للشعب السوري بواسطة ماكينة " الممانعة الأسدية " المتغولة . و هكذا فإن تلك الحالة الخاصة , أدت إلى هذه النتيجة المنطقية .

قضية أخرى ذات صلة بموضوعنا , تحتاج للتدقيق و البحث عن دلالة توافق بعض الحركات الإسلامية و القومية , مع المعاهدات المبرمة مع إسرائيل عندما وصلت تلك القوى إلى السلطة أو في الطريق إليها ( مصر – غزة ) و هنا يمكن فهم هذه الدلالة بأثر رجعي أيضاً حيث لا صيرورة لموقف ما , بمعزل عن المقدمات الكامنة و الخفية فيه . وهذا ما يدعو المرء لإعادة فهم وتعريف مصطلحات " الممانعة والمقاومة " و الإعتراض أيا تكن التسميات .

الصلح و مناهضة التطبيع

مفهوم تماماً , أن تشهد مصر و سوريا و فلسطين و الأردن , حركة ناشطة لمناهضة التطبيع , و ذلك ان مسار " الصلح " مع إسرائيل يقتضي مثل هذا النشاط , سواء كان " الصلح " عبر معاهدة سلام , أو إتفاق مبادئ , أو إتفاق هدنة راسخة تماماً , كما هو حال سوريا منذ عام 1974 .

لكن إذا كانت " دول الطوق " حسب التسمية القديمة , ذهبت في هذا الخيار , بفعل الحروب , فما هو مبرر دول " المساندة " للدخول في هذا المسار , و هي ليست في حالة إشتباك عسكري مباشر و ليس لها حدود مشتركة مع إسرائيل !!

وتالياً لماذا تقلب المعادلة , رأس على عقب , لتغدو أطروحة التطبيع , قضية ذات وزن , بينما "الصلح" نفسه غير قائم !! أو لماذا ترفع شأن هذه الأطروحة , لترقى إلى مستوى قضية ميثاقية , أو دستورية !! في الوقت الذي ينبغي فيه الإجابة عن قضايا مصيرية و ملحة في مسار الثورات العربية وأسلوب بناء المجتمع على أسس جديدة , تمكنه من إمتلاك القوة اللازمة ليقول كلمته في كل شأن مصيري . بما يجعل أية قوة تعجز عن فرض إرادتها على الناس .

إن قضية تموضع الدولة الديمقراطية العربية الجديدة في حركة الصراع الدائم تحتاج إلى بنى و هياكل تشاركيه تؤمن للفرد و للجماعات , تحقيق إرادتهم الحرة في إطار من التفاعل الحر و ليس المفروض بقوة الإيديولوجيا أو الشعار .
إن المسألة الفلسطينية , باتت مسألة تحدي حضاري لا تنفع معها المقاربات الشكلية أو اللفظية المحفوظة عن ظهر قلب . والتي اختبرها الواقع جيداً .

إن الفلسطيني في خضم هذه التحولات الكبرى يحتاج إلى توافق رسمي عربي مدعوم بقوى شعبية حرة , توافق على موقف صلب في مواجهة السياسات الإسرائيلية على غير صعيد , ويمكن ترجمته بأشكال من جبهات الضغط الدولية , لتصبح قضية دعم الشرعية الفلسطينية , تدخل في نسيج العلاقات العربية الدولية وتحديداً العلاقات العربية – الأمريكية . بما يجعل معيار حصول الفلسطيني على حقوقه المنصوص عليها في إطار الشرعية الدولية , معياراً للعلاقات العربية مع المجتمع الدولي .

هكذا يمكن القول أن فلسطين قضية العرب المركزية , وأن المسألة أبعد من شعار تفصيلي , إنها مسألة حقوق مشروعة . تحتاج إلى ميزان قوة حقيقي و جدي و فعال . للظفر بها .

الفلسطيني اليوم لا يحتاج إلى من يأتي عن يساره , ومن يطلق النار من كتفه , لأن من يعاني الجحيم الإسرائيلي ليس كمن يدعو الله لإزالة إسرائيل أو يلعن شعبها من بعيد .

السابق
النبي والإساءة
التالي
لا نجرؤ على شيء… شعار حضارتنا