مواجهة تداعيات الاستبداد

هناك ردة فعل ليست بسيطة في الشارع العربي لأسباب واعتبارات مختلفة تستثير القلق من الثورات العربية. بعض ردة الفعل مشروعة وعفوية وبعضها الآخر يصدر عن قوى صاحبة مصلحة في الدفاع عن الأوضاع السابقة. الحصيلة الراهنة للثورات يختصرها البعض بأنها «ربيع إسلامي». القصد من هذا التوصيف التركيز على الجانب السلبي الذي يطاول الارتداد عن بعض الإنجازات المدنية أو الخوف من العنف وثقافة التكفير أو التضييق على وجود الأقليات والحريات الدينية.
ينقسم اللبنانيون بصورة خاصة حول الوضع السوري الذي يكاد يختصر المشهد العربي بتعقيداته. هناك فئة «أهل الرأي» التي يعتقد بعضها أن المجتمعات العربية ليست مؤهلة بعد للمسار الديموقراطي وأن «ثقافتها السياسية» هي إحدى ركائز الاستبداد وهي تخشى أن يكون حكم الإسلام السياسي صيغة شمولية جديدة.

أما البعض الآخر فيعتبر أن الديموقراطية تحتاج إلى هذه التجربة السياسية حتى لو خالطتها المظاهر السلبية لصعود الإسلام السياسي ما دامت التعددية السياسية قد صارت واقعة يصعب الارتداد عليها.
لكن المسألة على صعيد القوى السياسية أكثر صعوبة حيث المصالح السياسية والتفاعلات اليومية التي كان آخرها الاختراقات الأمنية على الحدود. انخرطت القوى اللبنانية في الأزمة السورية فعلياً وبأشكال مختلفة ولو أنها تدّعي الابتعاد عن التورط المادي. ليس موقف الجهات السياسية إلا تعبيراً عن مصالح مكوّناتها الطائفية التي تصطف بطريقة منتظمة اليوم بين تياري الإسلام السياسي السني والشيعي. أما المسيحيون فيعبّر انقسامهم عن التحاقهم بأحد التيارين لصعوبة تكوين موقف مستقل لا يجدون له مقومات مادية. المسيحية السياسية تؤكد أكثر من مرة، كسواها طبعاً من الطائفيات، أنها ليست صاحبة مشروع لبناني مستقل عن النزاعات الإقليمية والدولية. المسيحية السياسية كانت عروبية في ما مضى بانتسابها إلى محور عربي معيّن، وهي الآن إسلاموية بانتسابها إلى محور من محاور الإسلام السياسي. ما هو بارز الآن بوضوح هو البُعد السياسي لهذا الانقسام حيث لا موقف موحداً أو غالباً لهذه الجماعة ينطلق من مصيرها كجماعة لا كمؤسسات سياسية. ربما تميل الكنيسة أكثر لترجيح خط الانحياز إلى الدفاع عن المشروع الذي يحفظ امتيازات الأقليات. تبرر الكنيسة هذا الدفاع بالصورة السلبية التي تظهر في ممارسات الإسلام السياسي المسلح وخطابه الديني. ولا يستوقفها الخطاب بحد ذاته بل الجهة التي يصدر عنها باعتبارها الجماعة الطائفية الأكثرية.
تختلف الأصوليات لا شك في الخطاب والممارسة نسبياً، لكن الاختيار بينها لا يتم على أساس مضمون أفكارها ومشاريعها بل على أساس القدرة المادية على التهديد بين أكثرية ساحقة وأقلية وازنة. لا يمكن الركون إذاً لمعايير المواقف الطائفية في النظر إلى الأوضاع العربية.

ليست المعادلة الفعلية الجارية الآن بين بقاء الاستبداد مع الاستقرار و«العلمنة» وبين الشمولية الأصولية والفوضى وعدم الاستقرار والتعدي على الجماعات الأقلية. ما يجري هو من تداعيات الاستبداد نفسه الذي أوجد ظاهرة الإسلام السياسي وأوجد ظاهرة العنف، وهو المسؤول عن طبيعة المجتمعات العربية في تكوينها وتعبيرها السياسي والثقافي. لم يكن الاستبداد «علمانياً» ولا «مدنياً» بل كان بصورة أساسية لاغياً لحرية المجتمع وقامعاً لجميع فئاته. وحين كان الاستبداد يواجه الحركات السياسية الدينية فعلى المستوى السياسي السلطوي وليس بوصفها خطراً على المجتمع. بل ان هذا الاستبداد هو الذي ساهم في رعاية هذه الحركات حين كان يتوسم فيها مساندته تجاه المعارضات الديموقراطية. لقد كان جواب النظام المصري على أزمة شرعيته المتناقصة بعد حرب تشرين إعلان «دولة العلم والإيمان» ومهادنة الإسلاميين وتعزيز النشاط المجتمعي لهذه التيارات مع التضييق على الحريات السياسية بوجه الجميع.

وحين واجه النظام العراقي التحدي الإيراني استنجد بالتراث الإسلامي (السني). أما النظام السوري فهو من رعى الجماعات الإسلامية في لبنان، السنية والشيعية، بوجه الحركات المدنية، وهو الذي انحنى أمام التيارات الدينية في سوريا، خاصة في المجال التربوي، بعد أن صدمها عسكرياً، وهو من ألغى حريات الجماعات المدنية وحضورها الفعال.
وهل كان من الممكن أصلاً أن يتم القضاء على الحركة الوطنية اللبنانية وأن تُدار الحياة السياسية في لبنان على أساس طائفي، وأن تقوّى الشيعية السياسية ولو لحسابات إقليمية دون أن يؤدي ذلك إلى نمو الأصوليات الطائفية الأخرى وتصاعدها؛ فالمسألة الآن تتعدى الحسابات السياسية الظرفية التي لا تحسم في المدى الاستراتيجي أو التاريخي مصير المنطقة.

لم تعد المنظومة السياسية العربية أو الإقليمية ضامنة لأية جماعة أو فئة، ولم تعد الأنظمة السياسية في أي مكان قادرة على تبطين وتغليف مكوّناتها ومصالحها وديناميات سلطتها، ولم تعد أي سلطة قادرة على حماية استقرار المجتمع بعد أن انفجرت كل مظاهر الكبت، وسقطت كل القيود السياسية والأمنية عن الغليان السياسي والاجتماعي والطائفي. فمن غير الممكن الآن إعادة إنتاج نظام سوري كابح للأكثرية مهما كانت طبيعتها سياسية أم طائفية. ولعل الطائفية التي صارت واقعاً اجتماعياً غدت أخطر أو أكثر تأثيراً من الطائفية الضمنية. لكن ذلك كله ليس دعوة للتسليم بعدالة طائفية مهما كانت مكوناتها ولا بأصولية مهما كانت هويتها ونفوذها. وفي أساس أي موقف لاستدراك هذا الخطر المحدق هو تجميع وتفعيل القوى المدنية في مستقبل الحياة السياسية لا المراهنة على لعبة الأقليات وشرعية مطالبتها بالحرية. فلا حرية للأقليات من دون حرية الأكثرية، ولا تقدم لثقافة الأكثرية مدنياً إلا في أجواء الحرية. وليس أمام شعوبنا اليوم إلا أن تبحث عن الصيغ السياسية الملائمة لهذه الحرية لا عن صيغ أساسها فكرة الإقصاء أو الإلغاء والكبت وتغطية المشكلات وتجاهل الأزمات. إنها المواجهة التي يجب أن تستمر مع الاستبداد ومع تداعيات وإفرازات الاستبداد لا الحنين إلى ماضٍ انهار وسقط.   

السابق
أيُّ سرّ في هذا كلّه؟
التالي
الإسلاميون في الربيع هل هم أنفسهم في الصيف؟