في الدولة الحتمية

لا يملك أهل الضجيج الممانع أن ينوحوا على غياب الدولة وسلطانها، وأن يدقّوا على صدورهم تأسّفاً على المآل الذي آلت إليه أحوالهم وأحوال الاجتماع اللبناني في مجمله، والذي يجعل المقارنة معه، بين زمن السلم وزمن الحرب ميّالة لصالح الثاني، ومن دون مبالغة!
الخراب العام المتأتّي من انتشار ظواهر الخطف واستسهال القتل وشيوع السرقات والاعتداءات والمخدرات والموبقات على أنواعها، هو في محصّلته، وللمرّة الألف، نتاج طبيعي لبرنامج عمل أهل الوصايتين السورية والإيرانية، والذي يتضمّن في قمّة بنوده إحالة السلاح الى حالة مقدّسة(!) والمقاومة الى رديف حتمي للسلطة الشرعية. ومتطلّبات تلك المقاومة الى منافس لحصرية القوى الأمنية والقضائية الرسمية.
وذلك في جملته نتاج فذلكة النصّ الأساسي لذلك البرنامج، والتي تقول في خطوطها العريضة ان الإمساك بالسلطة اللبنانية، أو الاستمرار في ذلك الإمساك بعد انسحاب الجيش الأسدي من لبنان، هو الهدف المركزي المطلوب في الأمس واليوم وغداً. والمعادلة تبعاً لذلك واضحة: إما أن نحكم أو لا حكم. وإمّا أن تخضع الدولة لنا أو لا دولة.

لم يُرد أهل ذلك البرنامج، التواضع والإقرار بثقل الأحمال. ولا الاتعاظ بما سلف من تجارب مُقَاوِمة ضاعت شعاراتها تحت وطأة تفاصيل الفلتان الداخلي، وتاهت وظائفها في متاهات الاجتماع المديني وتعقيداته الهائلة.. ولم يرد جبابرة الفكر المقاوم إبقاء أرجلهم على الأرض بل راحوا في اتجاهات مستحيلة، مفترضين انهم روّاد وطلائعيون، بدأ التاريخ معهم وينتهي بهم. وان فرادتهم أكبر من التجارب السالفة. وحصانتهم أشد صلابة وحديدية وتدريعاً من حصانة من سبقهم! وان "ظروفهم" الذاتية والموضوعية لا شبيه لها في العالمين! وان توظيف السماء في خدمة الأرض هو سبقٌ مركون في حسابهم وحدهم، وان ذلك كاف وافٍ في حدّ ذاته لإبقاء جمهورية مقاومتهم الفاضلة في منأى عن الغوغاء والرعناء!!.

.. أخطأوا كثيراً في فهم روح وتاريخ وطبيعة الاجتماع السياسي اللبناني وانخرطوا في لعبته المدنية (الدينية والطائفية والمذهبية والعائلية) مدجّجين بآراء وأفكار آتية من ثقافة عسكرية وأمنية وتنظيمية لا تلائم حتى المجتمعات "الصافية"! ثم أخطأوا أكثر في "التفاصيل" وصدقوا المبالغات النخبوية التي أسبغوها على حالهم وعلى بيئتهم وافترضوا ان الدولة ليست كياناً متكاملاً إنما جملة وظائف يؤخذ منها ما يلائم ويُترك الضدّ! لم ينتبهوا (أو بالأحرى لم يعرفوا؟!) ان حكم الغوغاء بحر هائج لا تستطيع مراكب السلطة (أي سلطة) أن تمخر فيه، على ما تقول خلاصة أحكام حكماء اليونان القدامى.. وان الفوضى المسلّحة والإجرامية في المجتمعات المدنية الحديثة كافية لتسوية أي قضية بالأرض، مهما ادّعت من نُبل وفضائل وقيم ورسالات!.

… لو يتواضعون قليلاً. ففي تلك المكرمة بداية الاعتراف. وفي الاعتراف (مثل الشك) بداية اليقين. واليقين الوحيد: ان الدولة لم تعد حاجة فقط، إنما شرط خلاصي وإنقاذي لا بديل منه.. قبل فوات الأوان!.
  

السابق
زواج مدني أمام المجلس النيابي
التالي
انتبه من التكنولوجيا !!