مقوّمات العظمة.. والتحريف!

يكاد مستوى توتر إيران إزاء الثورة السورية يماثل توتر بشار الأسد نفسه إن لم يكن يفوقه. ويكاد تدخّلها الميداني في سوريا أن يكون نسخة طبق الاصل عن صور سبق وأن شاهدنا الكثير منها إبان فترة الحرب الباردة وتدخّل قطبيها، كل من جانبه، مباشرة أو بالواسطة في نزاعات محلية وإقليمية كثيرة.. ويكاد الافتراض المنطقي تبعاً لذلك، أن يصل إلى الحسم في توقّع النهايات المتشابهة!
كأن إيران في تصرفها السوري تصدّق فعلاً شعاراتها المستحيلة، وأهدافها المتوخاة.. تتصرف وكأنها دولة عظمى ومن "حقها" تأمين مصالحها خارج حدودها ووفقاً لافتراضها هي حدود تلك المصالح، كما حدود وعمق "مجالها" الأمني الاستراتيجي.
في تفاصيل حركتها التفاوضية على مشروعها النووي، تضع تصوراتها على الورق وتفلشها على الطاولة. وفيها ما يدلّ مباشرة إلى نزوعها نحو تعظيم شأنها وتكبير حجمها وتضخيم أحوالها وتوسيع نطاق أحمالها بشكل مقلق. وذلك صار معروفاً لمن يحاورها ولمن يجاورها.. تطرح نفسها باعتبارها قوة عظمى من "واجبها" صون أمن محيطها وحفظ ما تراه مصالح حيوية لها في ذلك المحيط، ومن "واجب" الآخرين تبعاً لذلك المفهوم، أن يرضخوا لتلك الرؤى لأن فيها حفظاً لمصالحهم وصوناً لأمنهم وترسيخاً لحدودهم!
المبالغات في ذلك الأداء مسار مستديم. كان كذلك عند "الشاهنشاه" (ملك الملوك!) السابق، ولا يزال كذلك عند ورثته الثوريين الحاليين.. مبالغات في الشكل وفي المضمون، وفي الأداء واللغة، وفي الشعار والمحاولة التطبيقية! وكأن بلاد فارس هذه لا ترتاح ولا تعرف كيف ترتاح إلا إذا أقرّ سائر خلق الله بقوتها وتمايزها بغضّ النظر عن الحقائق والوقائع، والتي تقول في أولها ان الأمم العظمى فعلاً، صنعت مجدها بالعلم والتكنولوجيا والفتوحات الفلكية والطبية والصناعية والعمرانية. وبالإبداعات الفكرية والأدبية والفنية. وبالتصنيع العسكري وإنتاجاته (وليس بنسخه وتقليده!) وبكنوز المواد الأولية في باطن أرضها. وبإنتاج بنية اجتماعية اقتصادية قوية لا تؤثر فيها أول نسمة عقوبات خارجية تهدّد بتحطيم عملتها الوطنية وتقريبها من مستوى الأرض.. ولا تخشى جملة سياسية مضادة فتعمد إلى تحريف معناها وتزوير ترجمتها!
لائحة التناقضات في السلوك الإيراني أطول من عجالة يومية سريعة، لكنها مع ذلك يمكن أن تستوعب إشارة إلى مقارنة واحدة خلاّبة تفيد في محصّلتها، ان تركيا مثلاً صارت، اقتصادياً ومالياً واحدة من أول عشرين دولة في العالم. وان جيشها يُعدّ من أقوى عشرة جيوش فوق هذه المعمورة. وان اجتماعها السياسي يماثل في أدائه أعرق ديموقراطيات الغرب. وأن ذلك كلّه تمّ من دون تسجيل مثلبة ارهابية واحدة في كل تاريخها. ومن دون تسجيل تدخلها الفرضي في أي مكان لا يقبل أهله ذلك التدخل (لم يحصل خارج قبرص التركية) ومن دون ادعاءات امبراطوية فارغة ولا طموحات استحواذية مدمّرة رغم وراثتها لأهم امبراطوية إسلامية في التاريخ، ورغم انتشار التركمان فوق نصف آسيا!
فوتت إيران بالأمس فرصة ترقّيها وتدعيم بنيانها الوطني والإقليمي بالتي هي أحسن. وتفوّت اليوم فرصة ردف العرب والمسلمين بما يعينهم على تلقف الغد، وجبه تحديات التنمية والتقدم والحرية والتحرر، والنزاع على الحقوق المقدسة مع إسرائيل وداعميها وفق رؤى جامعة وموحّدة وخالية من المزايدات والأنانيات وبرامج النفوذ الطموحة!.. لا تفعل فوق ذلك كله، سوى الغرق في أوهام عظمة لا تؤدي في "يقظتها" إلاّ إلى تأكيد الضعف والركاكة وإشاعة الهزيمة واجترار الفشل!
.. لا يصنع التمايز المذهبي برنامجاً أمبراطورياً إذا كانت الفتنة صنوه!! ولا يصنع التمايز القومي حيثية عُظمى إذا كان الارهاب وسيلته، والتحريض وإشاعة الكراهية والأحقاد والتخريب عدّته المثلى! والأهم، انه لا تُنشر قيم العدل والحق من خلال دعم الطغيان والجور في سوريا وغيرها!
تحريف النصّ الإلهي لخدمة أهداف سياسية أنانية قد يكون قمّة الكبائر، مهما ادعى أهل ذلك التحريف من تقوى وإيمان، ومهما وزّعوا من خرائط تدّعي معرفة الطريق الأمثل إلى الجنّة!
 
 

السابق
الغضب حليف سيئ
التالي
اليونيفيل تحتفل في اليوم الدولي للسلام