صدق الجعفري

نجحت إيران في إحداث الفرز بين مَن يصدّق قائد الحرس الثوري الإيراني محمد علي جعفري، حول وجود عناصر من حرسه في لبنان، وبين مَن يصدّق السفير الإيراني غضنفر ركن أبادي الذي نفى ذلك، وحمّل وسائل الإعلام مسؤولية تناقل هذا الخبر بشيء من التسرّع.

كانت "الازدواجيّة" ولا تزال، سمة السياسة الخارجيّة الإيرانيّة، إنها العملة الواحدة بوجهين، والمثل الذي يقول "وجهان لعملة واحدة" إيرانيّ – فارسيّ، وبناء عليه فإن الغالبيّة تصدّق محمد علي جعفري، وتردّ على نفي أبادي بقلب الشفاه .

ما تقدّم لم يأت من فراغ، لأن له أساساً، والأساس يقول إن إيران تنظر بشراهة ونهم كبيرين إلى لبنان، تريد احتواءه، وأن تكون اللاعب الرئيسي فيه، تريد أن تلعب بمقدراته، نيابة عن نفسها، وعن النظام السوري مجتمعين، وتريد أن تتخذ من هذا الوطن ساحة حيويّة لمصالحها لا ينتقص نفوذها فيه عن ذلك الذي تتمتع به في العراق. إنها مذعورة كونه يرتمي – من منظارها – وبشكل لافت، في الحضن الأميركي – السعودي – الخليجي.

إنها مذعورة كون نظام الأسد لم يتمكن لغاية اليوم من حسم الموقف لمصلحته، وتشتد نوبة الذعر عندها في كلّ يوم يضعف فيه هذا النظام، ويتحرر لبنان رويدا رويدا من قبضة دمشق الفولاذيّة، حتى أنّ سياسة النأي بالنفس كانت تعتبرها مجرّد شعار غير قابل للتطبيق، ومع ذلك كانت تتعاطى معها منذ البداية بحذر كبير.

وكانت الازدواجية الإيرانيّة واضحة في مراسم استقبال قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر، قدّم حزب الله اللائقَ، أسهم في إنجاحها بصدق وشفافيّة، شارك في محطاتها الرئيسيّة، دعا جمهوره إلى المشاركة في ابتكار الحفاوة المعبّرة، في المقابل كانت طهران تنظر بريبة إلى ما يسعى إليه الفاتيكان كي يكون لهذا الوطن خصوصيته المميزة، وحياديته الإيجابيّة.

لا تريد أيران أن يكون لبنان حياديّا، بل تريده رأس حربة مشروعها في المنطقة، وجبهة المواجهة مع إسرائيل نيابة عنها، وعن الفلسطينييّن، والعرب، والمسلمين في رياح الأرض قاطبة.

إحترم الأمين العام السيّد حسن نصرالله اللياقات، ولم يحرّك ساكنا طوال فترة وجود قداسة البابا في لبنان، لكن ما كادت طائرته الخاصة أن تغادر مدرج المطار، حتى ظهر عبر الشاشة ليخطف بركة الزيارة وميثاقيتها، وليقول "الأمر لي" في معرض الإعلان عن ردّة فعله على فيلم "براءة المسلمين".

في المبدأ، إن المسيحيين قبل المسلمين سارعوا إلى الاعتراض، والشجب، والاستنكار، محمليّن الدوائر المشبوهة مسؤولية إعداده، وإخراجه، وعرضه في توقيت مشبوه، وذلك للتشويش على الزيارة، والدفع في اتجاه فتن طائفيّة ومذهبيّة تضرب السلم الأهلي وصيغة العيش الواحد.

هذا في المبدأ، أما في السياسة فالتزامن مريب بين إطلالة محمد علي جعفري من طهران، وإطلالة السيّد نصرالله من الضاحيّة يفصّل برنامجاً طويلا عريضا من الخطوات التي يجب على لبنان الإقدام عليها للانتقام من الفيلم، ومن يقف وراءه، علما أنّه لا يملك تفويضا يتحدث بموجبه باسم كل المسلمين، بل هناك من أتباع الدين الحنيف من له أسلوبه المغاير، ووجهات نظره المختلفة في التعبير عن ردود فعله ضدّ الفيلم، وأغراضه.

محمد علي جعفري يقول "لنا في لبنان"، فيما سماحة السيّد يريد " أن يأخذ كلّ لبنان لتنفيذ سلسلة المطالب والإجراءات التي تحدث عنها نيابة عن مليار ونصف مليار مسلم، وعن أكثر من 110 دولة ومنظمة إسلاميّة؟!".

لقد تسرّع رئيس الجمهوريّة العماد ميشال سليمان في استدعاء السفير الإيراني لتسجيل احتجاج وطني سيادي. كان عليه أن يصمت، أن يغض الطرف.

كان عليه أن ينقل لبنان نهائيّا من حضن النظام السوري ليضعه في الحضن الإيراني حتى يكون رئيساً مقداما مقاوما وطنيّا وقوميّا. جريمة رئيس الجمهوريّة أنّه يريد النأي بالنفس، يريد تحييد لبنان عن جنون العواصف التي تحيط به من كل حدب وصوب. جريمته أنه يسعى إلى حيادية لا تتنكر لعروبتها.

إن مواقفه ونشاطاته تخضع لراقبة مشددة، منذ فترة غير قصيرة، من قبل التحالف السوري – الإيراني. إنه متهم بالانحياز نحو المحور الأميركي – السعودي – الخليجي، ومشكلته الوحيدة أنه لا يريد تحويل لبنان إلى امتداد لحرس محمد علي جعفري، ومصالح بلاده، ولا يريد تحويل هذا الوطن إلى ساحة تبيع فيها القوى الخارجيّة وتشتري، من إيران، مرورا بتركيا، وصولا إلى الولايات المتحدة، وتقدم على تصفية حساباتها الإقليميّة والدوليّة على حساب اللبنانيين وأمنهم واستقرارهم وسلمهم الأهلي…  

السابق
إلى رفاقي وزملائي
التالي
انقسام حاد