سـتارة هشّـة يختبـئ خلفها الناس

تجلس جدتي وأختها جنبا إلى جنب على الكنبة أمام شاشة التلفزيون. تتابعان تحركات «البابا» وتتناوبان على مديحه ومديح زيارته: «ايه والله إجى من آخر الدني ع لبنان. منّا هينة أبدا»، «هلق صحيح البابا يلي قبله كان غير شكل بس هيدا كمان من شو بيشكي؟ خلقة الله ع وجّو»، «لو صحتي منيحة لروح إتلي الدني زلاغيط».
لم تستطع جدتي أن تذهب للقاء «البابا» وأخذ البركة منه، لكنها أضاءت الشموع على شرفات البناية بطوابقها الثلاثة، ونثرت البخور في كل بيت من بيوت أولادها.
حالها حال كل نساء «العبارة» في إهدن. في بيت آخر، تجلس جدة صديقتي أمام الشاشة أيضا وتدعو الله كي لا يصيب مسيحيي لبنان مكروه بعد اليوم. يطلب منها ابنها أن تدعو لكافة اللبنانيين، فتجيبه: «كل مين يخلّص نفسه».

زار البابا لبنان ليعطيه سلامه، ليطمئن المسيحيين اللبنانيين، ليطمئن مسيحيي الشرق الأوسط، ليخمد شرارة الفتنة بين الطوائف، ليؤكد أن لبنان رسالة، وليؤكد أن لبنان لا يزال رسالة، ليجمع بين مذاهب الكنيسة جمعاء، ليدعو الشباب اللبناني إلى التمسك بأرضه..
لا أعرف كيف استطاع البابا أن ينهي هذه المهام كلها في غضون ثلاثة أيام.
أحسده قليلا. ففي الأيام الثلاثة التي أزور فيها إهدن، لا يتسنى لي أن أنام كما يجب، أو أن أنهي قراءة رواية أحملها في حقيبتي، أن ألتقي بأصدقاء المدرسة، وأن أمضي الوقت الكافي مع عائلتي. لكني أعود وأفكر أنني، على عكس قداسته الذي تفتح له الطرقات، أمضي ما يقارب الساعتين ونصف الساعة على الطريق من بيروت إلى بلدتي.
على كل حال، فعلها وأنهى واجباته على أكمل وجه. كما ونجح في إقناع المسيحيين أن ما بعد زيارته لا يشبه ما قبلها. أصبح المسيحيون محصنين، بركة البابا تسيجهم من كل جنب، تجمعهم، تقربهم من بعضهم البعض. حسنا ما فعل.
لكن بركته تعزلهم أيضا عن الآخرين. تؤكد أنهم «مسيحيون» في لبنان و«مسيحيون» في الشرق، وأن خلاصهم لا يأتي لا من لبنان ولا من الشرق. خلاصهم إما يرعاه الحبر الأعظم وإما ترعاه العناية الإلهية.
وفي كلتي الحالتين: «كل مين بيخلص نفسه».

أعرف أن جدتي، كأختها وكجدة صديقتي وككل نساء الحي، لا تتمنى إلا الخير لكل الناس. تحزن أمام صور المجازر والقتل قبل أن تعرف من هم الضحايا ولأي دين أو جنسية انتموا. تسرع إلى تمتمة ما يردده أهل ضيعتها أمام الموت. تدعو الله أن يرحم أنفسهم «عدد ما في تراب على قبرهم».
لم أناقش جدتي بنظرتها إلى زيارة البابا. لا اعتقد أنها تستطيع أن تترجم حبها للسيدة العذراء التي تضع الزهور يوميا أمام شخصها إلا بهذه الطريقة. أن تسلم بتعاليم ابنها المسيح، وأن ترى في وجهها النقي ملامح السلام وفي سبحتها الخلاص.
وأن تصدق أيضا، من دون أي تشكيك، أن شخص العذراء مريم في جبيل ينزف ويذرف دما.
عندما عرفت جدتي بـ«عجيبة العذراء» في جبيل، فرحت وكادت تدمع عيناها. «دخيل قدرتك يا الله»، تجيب فورا. لكنها ما إن عرفت أن العذراء تنزف دما حتى تغير لون وجهها وصمتت طويلا، قبل أن تقول بصوت خافت: «هيدا شي مانو منيح. هيدا يعني في حرب».
قبل أن ينفي الكهنة حدوث العجيبة، ظل المؤمنون قلقين من الإشارة التي ترسلها العذراء. غريب أمرهم.
كيف تذرف العذراء دما في دلالة على اقتراب الحرب في حين أن البابا في لبنان يبشر المسيحيين بمستقبل أكثر إشراقا؟
ترى من يصدق المؤمنون؟ العذراء مريم أم الحبر الأقدس؟
الرواية الأقرب إلى المنطق والواقع هي تلك التي تحكيها دماء قيل أنها غطت وجه العذراء. دماء ربما تغطي وجوه الجميع في رواية عن حرب قادمة.

تكره جدتي الحرب التي عاشتها أكثر من مرّة واحدة، إن كان على صعيد بلدتها الصغيرة أو على صعيد الوطن. تخاف على ابنيها أولا، زينة بيتها. تخاف على أبناء عائلتها، على أبناء ضيعتها التي «ما عادت تحمل لبس الأسود» على حدّ قولها. تخاف على أبناء طائفتها والطوائف المسيحية. تخاف على أبناء الوطن.
تأتي الأمور بهذا الترتيب. وهو ترتيب فرضه القلب. لو كانت جدتي في السلطة لما اختارت أن تشن حربا في الأساس. لكنها إن حصلت، تعرف العذراء مريم منذ الآن من سيكون على رأس قائمة الدعاء في صلاة جدتي.

تروي جدتي أنها في صغرها، وفيما كانت في المنزل برفقة شقيقتها وحيدتين، سمعت صوت رصاص غزير في الخارج. لم تعرف أين تختبئ وشقيقتها، فارتأت أخيرا الوقوف خلف ستارة من القماش تغطي النافذة الأمامية للمنزل.
أنقذت براءة جدتي حياتها وحياة أختها. وعلى الرغم من أنهما وقفتا في مواجهة الرصاص، إلا أن مكروها لم يصبهما.
أنا متأكدة من أن جدتي، وكثيرين غيرها من الــناس، لا تتمــنى الحرب. لكنني لست على ثقة من أن ستارة هشة يمكن أن تفي بالغرض كل مرّة.  

السابق
الحرب من الجولان إلى الجنوب!
التالي
اللاعب غريغوري يُشهِر إسلامه