رأس جبل الثلج

«يتساءل الاميركيون كيف يمكن أن يُقتل سفير دولة ساهمت بتحرير الشعب الليبي من العبودية!!». هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية.
تحدثت وزيرة الخارجية الأميركية بامتعاض شديد ونبرة حزينة وبتصريح مقتضب بعد مقتل السفير الاميركي في بنغازي وبعض من طاقم السفارة الأميركية هناك وتساءلت بلسان الاميركيين قائلة «كيف يمكن ان يحدث هذا؟ كيف يمكن ان يحدث هذا في بلد ساعدنا على تحريره، وفي مدينة ساعدنا على انقاذها من التدمير؟»
تتساءل الوزيرة الأميركية باستغراب وحيرة عما حدث في ليبيا، كيف قتل انسان اميركي بسبب فيلم ليس له علاقة به، قتل بطريقة وصفتها الوزيرة بانها «تهز الضمائر». نعم أي بريء يُقتل فإن قتله يهز الضمائر سواء كان الضحية سفيرا او وزيرا، غنيا او فقيرا، الروح البشرية غالية جدا وقتل امرئ بغير وجه حق كقتل الناس جميعا.

لكن حادثة السفارة في بنغاري ومظاهرات الاحتجاجات في العالم الاسلامي ضد الولايات المتحدة يبدو انها لا تعكس فقط ردة فعل على فيلم ولا يمكن لها ان تكون كذلك مهما بلغت وقاحة وانحطاط الفيلم ومن شارك فيه، لكن ردود الافعال الغاضبة بدت وكأنها رأس جبل الجليد فما هو ظاهر منه اصغر بكثير مما هو مخفي في الاعماق.
كلينتون تصف الحرب التي شنها الناتو في ليبيا بحرب تحرير، وتحرير من العبودية، وعادة يكون التحرير لارض محتلة من أجنبي، أما ان كانت حرب تحرير من عبودية حاكم مستبد وظالم فهل ان الطرق المتبعة لبلوغ ذلك كانت الاكثر حكمة؟ وهل حمت حرب الناتو ضد النظام البائد في ليبيا من الدمار، ومن سفك دماء كثيرة؟ ومن الممكن اضافة سؤال اخر، هل الدول الغربية هي الدول المثلى لقيادة التغيير عبر التدخل العسكري المباشر في ليبيا آخذا بعين الاعتبار العلاقة التاريخية المتوترة احيانا وغير المتكافئة أحيانا اخرى بين دول الغرب وليبيا؟
واقع الحال ان المرحلة الاوبامية لا تختلف عن المرحلة البوشية ان صحت التسمية الا بالشكل، المرحلة الأوبامية مغلفة بفن العلاقات العامة وفن الدعاية، والا فقد كانت فترة بوش فترة للحروب المباشرة، أما الآن تدار حروب بطرق اخرى منها حروب الاستخبارات والحروب «الناعمة» والتي هي ابعد ما يكون عن الرفق والنعومة.
يسمونه الربيع العربي، آخرون ينعتونه بالخريف، أي كان فقد كان حراكا من أجل التغيير ومن اجل ازالة انظمة استبدادية ظالمة، لكن العبث الخارجي من قبل من لا علاقة لهم بالنزاهة والحياد حولت الربيع في بعض البلدان الثائرة الى خريف وحولت دعوات التغيير والاصلاح الى مواجهات دموية لا تخفى على البصير فيها اصوات الفتن الخارجية.

لا يمكن الالتفاف على الحقيقة، كيف تشهد المنطقة ربيعا وفيها بلد اراضيه محتلة بالفعل من قبل غرباء وهي فلسطين والقدس؟ القدس وفلسطين العنوان الرئيسي للمظلومية في المنطقة، ولا يمكن عمليا فصل هذا العنوان الرئيسي عن أي موضوع متفرع منه، كذلك لا يمكن أن تتحرر المنطقة من ربق العبودية، من دون عنوان استعادة القدس.
أن مجرد نقد كيان محتل ورفض فكرة وجوده المصطنع حرام، المهم هو أن يكون هذا الكيان المصطع آمنا، فأمنه فوق أمن أي أحد، وليذهب بقية افراد البشرية الى الجحيم. الحريات مصونة اذا لم تمس اسرائيل، حرية نقد الاديان السماوية، حرية التهكم على الانبياء، حرية اشاعة الفتن والاقتتال بين الشعوب تحت مسميات حرية التعبير أيضا مصونة، أما التشكيك بأرقام أو ملابسات «الهولوكوست» مثلا فهذا تعدٍ على خط أحمر، قد يقضي على مستقبل كاتب أو مؤرخ او سياسي وقد يؤدي به الى السجن.

القوانين في العالم الغربي مقدسة، السجن لمن يتجاوز الاشارة الحمراء، هذا أمر حسن بالطبع، لان تعديها قد يؤدي الى الاصطدام بمركبة اخرى فيعرض بذلك حياة الاخرين للخطر. أما الاصطدام بمشاعر ووجدان مئات الملايين من البشر، فهو أمر عادي يقع تحت حرية التعبير، وكأنما البشر في هذا العالم الغارق في المادة مجرد قطيع من الاغنام لا يبحث الا عن الملذات من طعام وغيره.
في العالم الغربي، كلما أصبح هناك ازمة بسبب فعل يزدري الاديان والمقدسات السماوية، يقولون ان السياسيين ليس لهم ناقة ولا جمل بالموضوع، هي حرية رأي يكفلها النظام. ان كان حال الانظمة هناك كذلك فإن هذه ليست ميزة بل مشكلة بنيوية عويصة على العالم الغربي البحث عن مخرج منها، وهي بالتأكيد مثلبة لا يحسد عليها. الغريب في الأمر ان حرية التعبير تصبح مقبولة اذا كانت لا تزعج الانظمة الغربية أو تتماشى مع أهوائها، أما اذا كانت مخالفة للهوى الغربي فالقوانين تسوغ لمنعها تحت ألف مسمى.

لا يمكن ابداً قيادة العالم نحو عالم مثالي بالنفاق وبالكيل بمكيالين، أوباما لا يختلف عن بوش الا بالشكل، الاخير يواجه خصومه وجها بوجه، والاول يستخدم وسائل مليئة بالميكافيلية، لكن ليس هناك تغيير بالجوهر، ولعل ما تشهده المنطقة من حروب داخلية واقتتال ومشاريع فتن جديدة وخطط لحروب موضوعة على الطاولة، قد يجعل السياسية الخارجية لاوباما اكثر خطرا من الادارة السابقة.
لقد اظهرت دراسة نشرتها صحيفة الغارديان البريطانية أخيرا وقبل احداث الفلم المسيء بأن الولايات المتحدة فقدت ثقة العالم بأكمله. والصحيفة ذكرت أن الدراسة وجدت أن الاشتباه والشكوك وضعف الثقة في نوايا اميركا يتسع نطاقه في العالم العربي وفي باكستان. الملفت بالامر أن الدراسة أظهرت أنه حتى الدول الاووربية الحليفة والمؤثرة مثل ألمانيا بدأت تفقد ثقتها في السياسات الاميركية. اما البريطانيون وبلدهم الحليف الاكثر التصاقا بالسياسية الاميركية، فإن اربعين في المئة ممن شملتهم الدراسة هناك يتذكرون مفردة «بلطجة» عندما يسمعون اسم اميركا؟

الولايات المتحدة بلد كبير ومهم ومترامي المصالح ولاعب رئيسي في الساحة الدولية، لكن انتاج الفلم المسيء للاسلام والمسيء لخير الخلق، وردود الفعل عليه، يشير بوضوح الى ان سياسات اميركا الخارجية تحتاج الى تغيير فعلي وحقيقي، وليس تغييرا شكليا يستند على فنون الدعاية والاعلام وفن العلاقات العامة، كما هو الحال مع ادارة اوباما.
  

السابق
الولايات الأميركية تميل لمصلحة أوباما
التالي
براءة الإسلام..يمس كل الأديان