حديث البقاء والهجرة من البلد

بعد انتهاء المرحلة الثانوية، اختار الأصدقاء السفر لإكمال الدراسة في الخارج. كانت البلدان الأوروبية، ومعها أميركا وكندا، هي الوجهة غالبا. بعضهم اختار السفر سعياً لتحصيل علمٍ أفضل. أما البعض الأخر فراهن على الحصول على الجنسية خلال الدراسة، على قاعدة الحصول على «عصفورين بحجر واحد». بالنسبة لي، لم يكن السفر يوماً خياراً، أولاً لأن الموارد المادية لم تكن كافية لتحمل نفقات الدراسة في الخارج، وثانيا لأن البقاء بالقرب من العائلة كان أكثر أهمية من الاغتراب بحثاً عن العلم.
المعادلة بسيطة: إذا كانت العودة إلى لبنان هي الهدف، فمهما علا شأن الدراسة التي اكتسبت في الخارج، لن يكون المصير سوى تدمير بطيئ ومنهجي لكل ما تعلمته. ذلك أن لبنان بلد عصيّ ليس فقط على التغيير، بل يتخطى نفسه ليتمكن في فترة محدودة من دفعك إلى التخلص تدريجياً من كل المكتسبات التي حصدتها، سواء كان نتيجة لتجربة شخصية خضتها في الخارج أو إن كان على الصعيد التعليمي الذي حققته. أما الهجرة بنيّة البقاء في الخارج، فلطالما اعتبرتها هروباً من الواقع، بدلاً من مواجهته.
في كل صيف يعود الأصدقاء إلى بيروت لقضاء إجازتهم. بعد أول زيارة، وبعد أن ينتهوا من تقبيل تراب الوطن لحظة وصولهم، توحي الخلاصة التي يأتون بها بندم عميق على رغبتهم الشديدة بالمغادرة في حينها. وذلك بعد إدراكهم أن الجنة التي حلموا بها ليست سوى وهمٍ، أدركوا حقيقته ما أن انخرطوا شيئاً فشيئاً في المكان الجديد، وبعد اعترافهم بأن «لبنان على كل علاته ما في متلو» و«12 ساعة بلا كهربا لا تساوي لحظة في الغربة».
ردة فعلهم هذه كانت ترسم بسمة صفراء على وجهي. كأن ندمهم وحسرتهم يؤكدان صحة قراري في البقاء ويدفعان بي إلى الشماتة بهم. سنة بعد سنة، كان الندم والتحسر يقلاّن، ليتحولا إلى نقمة على بلدٍ يعشقونه، ولكن الاعتراف بعدم قدرتهم على العيش فيه مجدداً، والتعبير عن استحالة العودة إليه بعد أن تعودوا على نمط العيش في الخارج، تحوّل من عبارات التسليم بعظمة البلاد على «علاته» إلى وضع شروطٍ للعودة. البسمة الصفراء بدأت تتبدد سنة بعد سنة، وخوفاً من الوقوع في الغيرة، بدأت تنقلب الأدوار. فبدلاً من الإصغاء إلى ندمهم وسماع المديح الذي راحوا ينهالوا به على خياري، توجّب علي استحضار كل الحجج والذرائع من أجل تذكيرهم بأن جنتهم ما تزال وهماً، وأن واقعي الذي تحسروا عليه سابقاً لا يزال يتمتع بالطعم نفسه. وبالرغم من تشبثي ومقارعتي لكل حججهم وإغراءاتهم استطعت ملاحظة، من صيف إلى آخر، أن المغادرة وحساب ايجابياتها وسيئاتها لم تعد موضوعاً ساخناً، بل تحولت إلى نقاش غير مرغوب به أساساً. وكأن القناعة التامة بصحة خيارهم أصبحت من المسلمات، بعد أن كانت صحة خياري بالبقاء مدعاةً للغيرة.
انزعاجهم من محاولتي المتكررة طرح الموضوع دفعهم إلى النفور مني. كذلك الإصغاء إليهم يتحدثون عن حيواتهم الجديدة دفعني أنا أيضاً إلى النفور والابتعاد عنهم. وكأن مواجهة أولئك الذين لطالما اعتبرت خيار مغادرتهم بحد ذاته هروباً، أنهكتني إلى درجة أنها دفعتني إلى الهروب منهم. هكذا صرت أفكر بأن المغادرة لم تعد هروباً من الواقع بقدر ما أصبحت تهرباً من حتمية حصولها. 
 

السابق
عنزة.. ولو طارت!
التالي
بعد الفيلم المسيء.. مجلة فرنسية تنشر رسوماً للرسول!!