إيجابيتا الفيلم المسيء

نجحت طهران في استثمار الفيلم المسيء للإسلام في معزل عما إذا كانت تقف خلفه أو عدمه، لأنّ النتيجة وحدها تتكلم، وهذه النتيجة تقول عودة، ولو مؤقتة وجزئية، إلى الاشتباك بين الإسلام والغرب، تحوير الأنظار عن الحدث السوري، تصدّر إيران القيادة والمرجعية في العالم الإسلامي، وضرب الربيع العربي وحشر قوى الاعتدال.

وقد أظهر هذا الفيلم خللين، الأوّل في الغرب وتحديدا في الولايات المتحدة التي بدت مربكة وحائرة بين التنديد والاعتذار حفاظاً على مصالحها والهوة النسبية التي تمكنت من ردمها مع شعوب هذه المنطقة ربطاً بالربيع العربي، وبين التمسك بالديموقراطية وحرية الرأي، علماً أنّ القاعدة العامة تقول إنّ حرية الفرد تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، ومن ثم مَن قال إنّ تحريم وتجريم التطاول على كرامات الناس ومعتقداتها يشكل مسّاً بالحريات العامة؟

فالأصوات المطالبة منذ عقود بسن تشريعات دولية تعاقب الإساءات التي تطاول الأديان والتي تبنّاها السيد حسن نصرالله على غرار التشريعات التي تعاقب الأصوات المشككة بالهولوكوست والعداء للسامية هي أصوات محقّة، واعتماد هذا التوجّه يخدم سياسة الاعتدال على المستوى العالمي، ويقطع الطريق أمام القوى التي "شغلتها وعملتها" المزايدة وافتعال الممارسات الموتورة والمدفوعة واستغلالها.

فالمسألة مبدئيّة أولاً ومصلحية ثانياً، إذ هل مصلحة واشنطن تكمن في توفير الحماية لبعض "المعتوهين" تحت عنوان الديموقراطية، هؤلاء المعتوهين الذين قد يعرّضون المصالح الاستراتيجية الأميركية للخطر، أم في إرساء علاقة صداقة وتعاون مع الشعوب العربية والإسلامية وأخذ هواجسها في الاعتبار من دون أن يكون ذلك على حساب الديموقراطية التي يبدو أنّها باتت في حاجة إلى التعريف مجددا؟

وطالما الشيء بالشيء يذكر، لم يعُد مسموحاً للولايات المتحدة التساهل مع إسرائيل في موضوع السلام الذي شكّل وما يزال السبب الرئيس للنقمة الإسلامية على أميركا.

ومن هنا، إنّ اعتماد سياسات استراتيجية جديدة بات ملحاً، خصوصا أنّ المستفيد من هذه المراوحة هو قوى الشر المتمثلة في التوجهات الإيرانية. كما لا يجب أن يغيب عن بال المسؤولين الأميركيين أنّ الثورات العربية قضت على مفهوم القومية لمصلحة الوطنية وكشفت أنّ أولوية الشعوب العربية استرداد حريتها وكرامتها، وليس مصادفة أن لا تشهد كل هذه الثورات حرقا لعلم إسرائيلي وليس فقط أميركي.

وبما أنّ المشكلة الأساس بالنسبة إلى الولايات المتحدة هي إيران يجب اعتماد السياسات التي تزيد من عزلة الأخيرة وليس ترييحها وخدمتها كما حصل مؤخراً من قمّة عدم الانحياز إلى قمة الاستغلال الرخيص للفيلم المسيء للإسلام والإنسانية كونه يخدش الحس الإنساني.

أما الخلل الثاني الذي أظهره هذا الفيلم، فهو غياب المرجعية السنية والعربية وترك المبادرة بيد شيعة ولي الفقيه، فيما كان الحري بالمملكة العربية السعودية أن تصدر بياناً تدين الفيلم وتحذّر من التحركات الاحتجاجية التي تخدم المشروع الصهيوني-الإيراني، أو الدعوة إلى اجتماع عاجل يضم الرياض والقاهرة وأنقرة واتّخاذ الموقف اللازم الذي يضع الأمور في نصابها ويبرد المشاعر الجياشة ويحول دون تقديم هدايا مجانية أو السماح بتلطّي البعض بعباءة دينية تنفيذاً لأغراض سياسية.

من غير المسموح العودة إلى ما قبل الثورات العربية حيث كانت أقلية شيعية (المقصود ولاية الفقيه وليس من منطلق أكثري وأقلّوي) توحي أن الأولوية الإسلامية مواجهة إسرائيل والغرب، وهذا ما دفع الرئيس بشار الأسد إلى التأكيد أنّ الثورات لا يمكن أن تقترب من سوريا كونها في صلب محور الممانعة، الأمر الذي بدّدته الوقائع على الأرض من تونس ومصر وليبيا إلى اليمن وسوريا.

ولكن قد تكون في المقابل لهذا الفيلم المقيت إيجابيتان: الأولى تتّصل بإقرار السيد نصرالله أنه ليس محور الكون لجهة أنّ التصدي لهذا الفيلم وغيره يتطلب إصدار قوانين دولية وأميركية وأوروبية وليس الاتكال على عضلات الحزب فقط، والإيجابية الثانية تتعلق بالتحسس الغربي والعربي والسنّي مدى خطورة المشروع الإيراني الذي تبيّن أنّ في مقدوره على غفلة من الزمن نقل المنطقة من موقع إلى آخر.

والتحدي الأساسي اليوم يبقى في كيفية إعادة المشهد في المنطقة إلى ما كان عليه عشية الفورة التي أعقبت ردود الفعل على هذا الفيلم، حيث إنّ النظام الإيراني كان معزولاً والنظام السوري مهدداً بالسقوط و"حزب الله" مأزوماً، وأكبر دليل على أزمته اضطرار السيد نصرالله إلى الظهور والمشاركة الشخصية في المسيرة الاحتجاجية، فضلاً عن وضعه روزنامة تظاهرات على امتداد أسبوع وربما تمتد أكثر وتتركز في الجغرافية الشيعية، هذه التظاهرات التي تهدف إما إلى خطف الحدث السياسي في البلاد أو إجراء بروفا انقلابية في انتظار الساعة الصفر، وبالتالي الأولوية اليوم هي في التأكيد على عنوان المرحلة لبنانياً بإخراج السلاح الإيراني، وسوريا بإسقاط نظام البعث، وإيرانياً بضرب النفوذ الإيراني في المنطقة وعزل تأثيره داخل حدود بلاد فارس.

وفي موازاة ما تقدّم، فإنّ تحرُّك "حزب الله" يهدف إلى تغطية ما يجري في سوريا من إبادة جماعية ونسف زيارة البابا التي لم تأتِ في سياق ما كان يتمنّاه الحزب ويشتهيه أقلّه على ثلاثة مستويات: كلامه التضامني مع الشباب السوري التوّاق إلى الحرية، ما يخالف كل رهانه على موقف غير مبال من الثورة، دعوته المسيحيين إلى عدم الخوف وإنجاح النموذج اللبناني، ما يدحض كلّ فكرة الأقليات، تشديده على السلام، ما ينسف كلّ أيديولوجية الحزب القائمة على الحرب والعنف.  

السابق
تكريم الأسطورة صباح
التالي
متى يصير اللبنانيّون.. لبنانييّن؟