السفير: البابا يوصي اللبنانيين: أنبذوا الفتنة وعزِّزوا الشراكة

عاد البابا بنديكتوس السادس عشر الى الفاتيكان، ولكن الكثير منه بقي في لبنان والمنطقة. بقيت أصداء كلماته ووصاياه، وظلال يده المرفوعة لمباركة «جمهوره» الواسع. عاد البابا الى «عالمه»، لكن الأكيد ان معظم اللبنانيين كانوا يتمنون لو ان إقامته في ربوع بلدهم طالت أكثر، حتى يستظلوا أطول وقت ممكن بفيء عباءته وإرشاداته.
صحيح أن زمن المعجزات قد ولّى، وأن البابا لم يحمل في يده عصا سحرية تصنع العجائب، إلا ان الصحيح ايضا أنه استطاع بهذه الخلطة السحرية، من البساطة والبلاغة، ان يجمع ـ ولو الى حين ـ أولئك الذين تفرّقوا طويلا، وان يهدي النفوس القلقة على الحاضر والمستقبل سلاما داخليا هجرها منذ زمن بعيد.
لقد أعاد البابا الاعتبار الى مفردات، كانت قد وُضعت في الإقامة الجبرية في لبنان والشرق، تحت وطأة الصراع المحتدم، فخرجت مجددا الى النور، ورافقت «الحبر الأعظم» في إطلالاته على كل المنابر التي أطل منها، الأمر الذي أتاح امام كل من استمع اليها، فرصة الخروج من تحت ركام اللغة الطائفية المذهبية، والإنصات الى خطاب مغاير، يحض على الوحدة والسلام والمحبة والمصالحة والتوازن، ونبذ العنف والأصولية، واحترام الآخر وحقوق الانسان والتمسك بالأرض ورفض الهجرة.

وإذا كان لبنان بما يمثّل من تنوّع وبما يختزنه من حضور مسيحي وازن قد استقطب البابا لزيارته، إلا أن الإرشاد الرسولي الخاص بالشرق الأوسط موجّه الى مجموع المسيحيين في هذه المنطقة الساخنة من العالم، وبالتالي فإن لبنان كان بمثابة المنصة او الشرفة التي أراد من خلالها البابا أن يطل على المحيط الأوسع، ليقول له كلمته. وفي أي حال، كان الزائر الاستثنائي حريصا على تظهير أهمية دور كنائس الشرق من خلال اللقاء الذي جمعه مع رؤساء الطوائف المسيحية غير الكاثوليكية، الى جانب اهتمامه بدور الشبيبة، كضمانة للمستقبل.

وكان لافتا للانتباه أن البابا تفادى خلال محطات زيارته الغوص في السياسة على الطريقة اللبنانية، فتجنّب السير في الزواريب وابتعد عن الاصطفاف والتصنيف، مفضّلا أن يبشّر بالقيم العابرة للحدود الجغرافية والطائفية، وهو المنزّه عن المصالح والحسابات التي تتحكم عادة بسياسات المجموعات والدول، فتدفعها الى تغليب الشر على الخير، والظلم على العدل، والقوة على السلام، والباطل على الحق.

والتحدي الأكبر الآن في مرحلة ما بعد الزيارة، هو العمل كي لا يلقى الارشاد الرسولي الخاص بالشرق الاوسط، المصير الذي آل اليه الارشاد السابق المخصص للبنان، من إهمال، وهذا يتطلب من المسيحيين الالتزام الفعلي بخريطة الطريق التي رسمها البابا عبر تحويل حبرها الى نمط حياة، وبالتالي الأخذ بها، كما هي، سلّة واحدة ومتكاملة، بعيدا عن الاستنسابية في القراءة والتطبيق، تبعا لـ«المزاج السياسي».
لقد ارتاح اللبنانيون خلال الأيام الثلاثة الماضية من ضجيج السجالات العقيمة وآلام الانقسامات الحادة، بعدما «استحى» زعماؤهم من الزائر الاستثنائي، فأوقفوا العمل، ولو مؤقتا، بمحركات التحريض والتعبئة، ومنحوا الملفّات الخلافية «إجازة «، يُخشى أن ينتهي مفعولها بدءا من اليوم.

لكن، بدءا من مساء أمس، بدأ يراود اللبنانيين هاجس ان تُطوى وصايا البابا وإرشاداته في الأدراج، وان يعود كل شارع الى «مرشده». والأرجح، أن اليوم سيكون في روزنامة الطبقة السياسية يوما آخر لا علاقة له بزمن زيارة البابا، فتعود الى الواجهة والمواجهة الملفات الداخلية المعلّقة، والمفتوحة على كل أنواع التجاذبات.   

السابق
ممثلة الفيلم المسيء: المخرج خدعني
التالي
النهار: البابا للبنانيين: أرفضوا التفرقة واختاروا التعددية