حـروب عابثـة

بدأت الألفية الثالثة، خلافاً للتمنيات الإنسانية، بحروب عدة تنبعث من إيديولوجيات قديمة ونزاعات تاريخية. منذ 11 أيلول 2001 إلى حرب العراق وأفغانستان، إلى لبنان وسوريا، وصعود الإسلام السياسي في العالم العربي، والاستفزاز المتكرّر الذي يصدّر في الغرب لمشاعر المؤمنين المسلمين، هناك مفارقات غريبة. أعلى أنواع التكنولوجيات الحربية وأكثرها تقدماً وفتكاً، وأكثر الأفكار والمشاريع والخطط التقليدية.
في الرواية التاريخية أن برجي التجارة العالمية قد هُدما بفعل مجموعة من الإسلاميين السلفيين الذين يريدون إعادة العالم إلى عصر الإسلام الأول. هؤلاء استخدموا تقنيات الغرب بأفضل وسائل الخبرة والتحكّم. يلي ذلك أن يشن الغرب حرباً على «الإرهاب» في أفغانستان، وعلى الزعماء الراديكاليين العرب أو الذين يمارسون الدكتاتورية ويخطفون شعوبهم في خيارات سياسية لا تلائم سياسة الغرب. ينجح الغرب في تحطيم العراق بالتعاون مع إسلام سياسي سني شيعي، عربي إيراني، فيكبلون هذا البلد بعشرات الاتفاقات الأمنية والاقتصادية، ثم يستديرون نحو سوريا لتجويفها واستنزافها بعدة شغل وتحالفات مختلفة. ينظمون فيما ينظمون كل بيئة «الإرهاب» والتطرف الإسلامي ويفتحون لها المعابر نحو سوريا ولبنان. هذه الحروب لا تتوقف عند هذا الحدّ، فكلما حاول الإسلام السياسي الصاعد في المنطقة أن يقترب من المهادنة، أو التعايش مع العالم المعاصر بتنوعه وتعدديته في الداخل والخارج، تظهر في الغرب حركة استفزاز تستدعي غضب المسلمين وتستنفر لديهم التحديات دفاعاً عن كرامتهم وتأخذهم إلى حيث ينشغلون برد الإهانة لا بصناعة حاضرهم ومستقبلهم.
صحيح أن العالم أكثر تعقيداً من أن تديره مؤسسة مهما كان حجمها ونفوذها وتخطيطها، لكن «المصادفات» ليست على هذا النحو، عندما يكون إلى جانب كل هذه النزاعات مؤسسات تفكير لا تتوقف عن إنتاج سيناريوهات لإعادة تشكيل العالم.
اكتشف الغرب الإسلام السياسي قبل أن نحسّ بوطأته في حياتنا، حرّضوا عليه ثم دخلوا في لعبة الاحتواء التي أثمرت منظومة سياسية تأخذ جزءاً كبيراً من شرعيتها أنها تعطي المنطقة هوية مختلفة عن هوية الغرب وثقافته. علماً أن هذه الهوية عاجزة عن تغيير مجرى الأمور الواقعية على مستوى التحديات المعاصرة. يريدون أن لا يجري شيء في هذه المنطقة يقوّي استقلالها ويعزز قرارها ويستردّ لها حقوقها في مواردها، ويعيد هيكلة اقتصادها بمعزل عن مراكز القرار الدولية. والأدهى أن هذا الغرب ذاته يمارس
شكلاً حديثاً من «الاستشراق» مقدّماً لنا صورة عن أنفسنا ظننا أننا تجاوزناها منذ زمن بعيد. نحن في هذه الصورة لسنا أمة ولا «أمة في طور التكوين» ولسنا شعوباً لديها تحديات مشتركة وتطلعات مشتركة بل طوائف وجماعات إثنية مدعوّة إلى بلورة هويات وكيانات سياسية بذريعة خوفها من بعضها البعض وتبنيها لاستراتيجيات سياسية وحربية لا تتحقق إلا في دائرة الوصاية والحماية الدوليتين. لم نكن يوماً براءً من الانخراط في حلبة الرقص الدموي في لعبة الاستقواء والتسليم بقواعد الوليمة الدولية الكبرى ما قبل سايكس بيكو وما بعد يالطا وفي الحرب الباردة وما بعد الحرب الباردة. لكن هذا الشقاء العربي يكشف أنه لم يكن لنا يوماً حلفاء جديون في هذا العالم. فلا أبلغ من هذا التفاهم الروسي الأميركي على الأهداف، كما قال وزير خارجية روسيا ونائبه بالنسبة لمستقبل الأزمة في سوريا مع الاختلاف في الوسائل. بل ما أبلغ أن يحذر كل الأطراف الفاعلين في الأزمة من مصير محتوم لإضعاف المقوّمات الكيانية لسوريا وإدارة الصراع حول هذا البلد وفيه بحسابات بعيدة جداً عن حاجات الشعب السوري وقضاياه ومطالبه.
فجأة يحدّثنا العالم عن «طائف سوري»، عن مجتمع لا يعرف طريقه لعيش حر كريم ومتضامن بعد عقود من الثناء على مركزية الكيان والدولة وصدقية النظام في عهوده وتعهداته ومهماته، فتصبح سوريا بين ليلة وضحاها مجتمع الكراهية والبغضاء والطوائف والمذاهب المتناحرة التي عليها أن تجد وسيلة لتقاسم السلطة، كما في النموذج اللبناني.
وعلى ضفتي الصراع الإقليمي والدولي هناك تنظيم دقيق للمواجهات ولتوازن القوى للإنهاك المتبادل. أما الحديث عن وقف العنف فهو الوصفة الدولية لتبييض الوجوه وتبرئة الذمة مما ستنجلي عنه هذه المواجهة وهو إعادة سوريا إلى العصور الوسطى. هناك نظام يعرف الغرب كيف يستثيره ويستدرجه ويغريه منذ زمن بعيد بفكرة الشراكة في «مكافحة الإرهاب»، وهناك معارضة عطشى لكل دعم دولي فيقطّر لها هذا الدعم بالحدود التي ينهشها النظام وتنهشه وتصبح أسيرة همجية بعض أطرافها لتصير محاصرة بشروط رعاتها من القوى الإقليمية والدولية.
مشهد عربي بائس ليس فقط لأنه مأساوي بحجم العنف والدم والدمار وتصاعد لغة التوترات الطائفية والدينية، بل لأنه كذلك يمتدّ في المدى العربي كله ويطاول كل المتورطين في هذا الحريق. ولقد صرنا على توقيت الانتخابات الأميركية كل أربع سنوات نقدم قرابين لدعم هذا المرشح أو ذاك، وهذه واحدة من المفارقات أيضاً، ولكننا ولا مرة واحدة استطعنا أن نكون ناخبين للرئيس الأميركي إلا بوصفنا ضحايا تستثمرنا المؤسسة المهيمنة في أميركا وتراهن على أفكارنا البالية وإيديولوجياتنا المغلقة. ولماذا يكون الأميركيون والغرب عموماً والروس ومعهم «دول البريكس» مهتمين لأمر الحريق في سوريا والاستنزاف المتمادي لإيران في سباق تسلح معروف النتائج، وفي صراع الأديان والطوائف، أو بقيام مشروع عربي أو مشروع إسلامي، طالما كل هذه ليست إلا رغوة طافية على سطح عالم تتحكّم فيه آلهة المال والصناعة والتقنية.
وما يزال يبيعنا الغرب انتصارات وهمية حين نحرق سفارة هنا ونقتل أجنبياً هناك ونخطف بعضنا بعضاً ونحرق ثرواتنا كيداً وتسلطاً.  

السابق
لبنان السلام في زمن الهمجية
التالي
من يخدم نتنياهو وبشار؟