السفير: البابا لمسيحيي الشرق: “لا تخافوا” .. ولمسلميه: “توازنوا”

حلَّ بنديكتوس السادس عشر ضيفا على الانقسام اللبناني، فأحاله إجماعا على الترحيب به. قال مكرراً على أرض المطار، بلغة أهل الدار، "سلامي أعطيكم"، فتسللت الحماسة الى الشبان المنتظرين، والبسمة الى شفاه السياسيين. أما مساء، فأعلن أبرز رسائله. وقف في بازيليك القديس بولس في حريصا ـ درعون وتوجّه الى كنائس الشرق بالقول: "لا تخافوا".
جاء خليفة بطرس محاولا أن يروي نبتة المسيحيين العرب المغروسة في أرض هذا الشرق، ويعيد إليها نضارة الحياة وحيويتها، فتؤتي ثمارا من جديد. لكنه لم يأت من أجل المسيحيين وحدهم. أقلّه لا خصوصية لهذه الزيارة إن كانت لهم وحدهم. أتى ليعلن قناعة فاتيكانية راسخة بالحوار المسيحي ـ الاسلامي، ويكرّس التعايش واقعا حياتيا، وليس خياراً ظرفياً عابراً. هذا الكلام قاله على أرض لبنان: "أزوركم كصديق لله وللبشر ولكل شعوب المنطقة مهما اختلفت معتقداتها، وأكمل جملته ـ المفتاح: "التوازن اللبناني الشهير يمكن أن يشكل نموذجا يحتذى في الشرق الأوسط".
لم ينتظر البابا وصول طائرته الى بيروت. تعمّد بث الرسائل من الجو. قال للصحافيين الذين يرافقونه إنه يعلم جيدا المناخ المتوتر المحيط بلبنان، وهذا ما حداه أكثر على التشبث بالزيارة "كرسول سلام"، و"هذه رسالة قوية بحدّ ذاتها" على حد تعبير الناطق باسمه.
رافقه اللبنانيون عن كثب. فهو جاء مصحوبا بآلاف الأضواء التي ستتسلط على هذا البلد الصغير، ومن خلاله على الشرق بأكمله. هذا الشرق الذي ينام ويصحو في كل يوم على جراح جديدة.
لم يكن البابا يحتاج لثوبه الأبيض لتمييزه عن الحضور. ففي ملامحه بعض من براءة تستعيرها الشيخوخة، أو ربما تستعيدها، من طفولة أوغلت في الابتعاد. وفيها، تواضع المثقل بالمعرفة، وخجل الكاهن في بدايات مشواره. زيّنت له الطرقات بالأعلام البابوية واللبنانية واللافتات المرحّبة. تفنن اللبنانيون في الترحيب به بكل لغاتهم، بالعربية والفرنسية والانكليزية والأرمنية والألمانية واللاتينية والايطالية. قرعوا له الأجراس ترحيبا وأضاءوا الشموع. هذا "الآتي باسم الرب" يفترض أن يسير على درب سلفه يوحنا بولس الثاني، الذي زرع "رجاء جديدا للبنان"، وأن يعمم هذا الرجاء على الشرق الأوسط.
هي الرسالة التي أعلنها في خطابه في حريصا قبيل توقيعه "الإرشاد الرسولي"، وقال فيها إن لبنان بلد "الرسالة والتعايش بين مكوّنات المجتمع بطريقة متناغمة… إنه رســالة للشرق الأوسط".
وتعمّد البابا في حواره مع الصحافيين في الطائرة الاعلان عن ترحيب المسيحيين بـ"الربيع العربي". إلا أنه حذّر من "عدم التسامح مع الآخر". لافتا الانتباه الى أن "الكرامة العربية المتجددة تعني تجديد مفهوم العيش معا، وتسامح الغالبية والأقلية. الحرية يجب أن تتواكب مع حوار أشمل، وليس هيمنة طرف على الآخر".
وعن الوضع في سوريا، دعا البابا الى وقف امداد الاطراف في سوريا بالسلاح، معتبرا أن "توريد الأسلحة يجب ان يتوقف نهائيا. فمن دون ارسال الاسلحة لا يمكن للحرب ان تستمر".
وبينما كان الرأي العام العالمي منشغلا، منذ 72 ساعة بمتابعة ردود فعل الجمهور الاسلامي الغاضب على الإساءة الأميركية للنبي محمد، كانت معظم الفضائيات العالمية
وخاصة الأوروبية، تنقل وقائع زيارة البابا الى لبنان والترحيب الشامل به، ليتبدى مشهد التعايش اللبناني، كمشهد يقتدى به في كل العالم.
استنفرت الكنائس والاديار والرعايا المواطنين الذين واكب معظمهم، أمس، الزيارة عبر شاشات التلفزيون، فيما يستعدون للمشاركة اليوم وغدا في استقبال البابا ومواكبته. ولم يتردد جمهور "حزب الله" في الخروج الى طريق المطار، لنثر الأرز والورود على الضيف الرسولي.
هذا المشهد لم يكتبه البابا في "الإرشاد"، بل عاشه منذ أن وطأت قدماه أرض المطار. من هنا، جاءت دعوته في "الإرشاد" الذي وقّعه مساء أمس، في احتفالية كبيرة شهدتها بازيليك القديس بولس، الى "استئصال الأصولية الدينية".
وكتب بنديكتوس السادس عشر في "الإرشاد الرسولي" حرفياً:"أوجّه دعوة ملحّة الى كل المسؤولين الدينيين اليهود والمسيحيين والمسلمين في المنطقة لكي يسعوا، بالمثال والتعليم، الى بذل كل الجهود لاستئصال هذا التهديد الذي يطال من دون تفرقة وبشكل قاتل المؤمنين من كل الأديان".
وجاء "الإرشاد" متضمنا معظم توصيات "السينودوس حول الشرق الاوسط" الذي عقد في تشرين الاول 2010 في الفاتيكان. وتطرق البابا، بحسب ملخص عن "الإرشاد" الى الهجرة المسيحية من الشرق الاوسط التي وصفها بـ"النزيف" ما يضع المسيحيين "في موقف حسّاس، وأحياناً من دون أمل، ويتحسسون النتائج السلبية للنزاعات ويشعرون أحياناً بالذل، رغم مشاركتهم عبر العصور ببناء دولهم". وقال إن "شرق أوسط من دون مسيحيين او مع مسيحيين قلائل لا يعود الشرق الاوسط".
وتابع "الإرشاد" ان البابا "يدعو المسؤولين السياسيين والدينيين الى تجنب سياسات وإستراتيجيات توصل الى شرق اوسط من لون واحد لا يعكس حقيقته الانسانية والتاريخية".
كما شدد "الارشاد" الذي سيعمم كاملا يوم غد، على أن "مسيحيي الشرق الاوسط لديهم الحق والواجب في المشاركة الكاملة في الحياة المدنية ولا يجب ان يعاملوا كمواطنين درجة ثانية".
ووصف الناطق الرسمي باسم الفاتيكان المونسنيور فيديريكو لومباردي "الإرشاد الرسولي لمسيحيي الشرق" بأنه "وثيقة طويلة لكنها مكتوبة بلغة سهلة ومفهومة أكثر من أي وثيقة كنسية سابقة". وعدّد بعض عناوينه، بعد أن نشره الفاتيكان كاملا أمس على موقعه الرسمي على "الإنترنت"، وأبرزها يتعلق بالحوار بين الأديان والعلاقات بين مختلف المجتمعات البشرية، العلمنة والأصولية الدينية. وقال لومباردي إن "الإرشاد استخدم لغة واقعية لتحديد دور الكنيسة وإعطاء شهادة مسيحية موحّدة من أجل خير المجتمع، وقدم أيضا وصفات واقعية للتعاون بين مختلف الكنائس والجماعات المسيحية".
ومثلما شدّد رئيس الجمهورية في كلمته الشاملة في استقبال البابا على أرض المطار، على أهمية التوصل الى حل سياسي عادل للقضية الفلسطينية يشمل قضية اللاجئين، جاءت كلمة بطريرك الروم الكاثوليك غريغوريوس الثالث لحام خلال الاحتفال بتوقيع "الإرشاد" مكمّلة للموقف الرئاسي، حيث شدد على أهمية التوصل الى حل للنزاع الاسرائيلي الفلسطيني، والاعتراف بدولة فلسطين، معتبرا ان "الاعتراف بفلسطين هو أثمن هدية تقدم للمشرق العربي بجميع طوائفه مسيحيين ومسلمين. وهذا ما يضمن تحقيق أهداف السينودس لأجل الشرق الأوسط، وأهداف الإرشاد الرسولي".  

السابق
النهار: بينيديكتوس من لبنان: نداء ملحّ لاستئصال التطرّف
التالي
الديار: البابا يخاطب اللبنانيين بالعربية “سلامي اعطيكم”