البابا: لبنان مدعو اليوم الى ان يكون مثالا في التضامن والتعايش والحوار

القى البابا بنديكتوس السادس عشر كلمة خلال لقائه مع أعضاء الحكومة ومؤسسات الدولة، والسلك الدبلوماسي، والمسؤولين الدينيين وممثلي عالم الثقافة، في القصر الجمهوري – بعبدا، قال فيها: "فخامة رئيس الجمهورية، حضرات السيدات والسادة ممثلي السلطات البرلمانية، والحكومية والمؤسساتية والسياسية في لبنان، حضرات السيدات والسادة رؤساء البعثات الدبلوماسية، أصحاب الغبطة، السادة المسؤولين الدينيين، الأخوة الأعزاء في الأسقفية، سيداتي وسادتي، أيها الأصدقاء الأعزاء، بكلمات السيد المسيح هذه، أريد أن أحيكم وأشكركم، "سلامي أعطيكم"، (يو 14,27) على استقبالكم وعلى حضوركم. فخامة الرئيس، إني أشكركم لا فقط على كلماتكم القلبية، بل أيضا لسماحكم بهذا اللقاء. منذ قليل قمنا معا بزراعة أرزة لبنان، رمز بلدكم الجميل. وعند رؤيتي لهذه الشجيرة وللرعاية التي ستحتاجها حتى تنمو فروعها المهيبة، فكرت في بلدكم وفي مصيره، في اللبنانيين وآمالهم، في جميع الأشخاص في هذه المنطقة من العالم والذي يبدو أنهم يعيشون آلام المخاض بدون نهاية. عندها طلبت من الله أن يبارككم، ويبارك لبنان، ويبارك كل سكان هذه المنطقة التي رأت ولادة ديانات كبرى وثقافات نبيلة. لماذا اختار الله هذه المنطقة؟ ولماذا تعيش في جو عاصف؟ لقد اختارها الله، على ما أعتقد، لكي تكون نموذجية، لكي تشهد أمام العالم أنه بإمكان الإنسان أن يعيش عمليا رغبته في السلام والمصالحة! هذا التطلع مدون منذ الأزل في مخطط الله، الذي طبعه في قلب الإنسان. فإنني أرغب أن أتوقف هنا لأكلمكم عن السلام، لأن يسوع قال: "سلامي أعطيكم".

أي بلد هو غني قبل كل شيء بالأشخاص الذين يحيون على أرضه. يتوقف على كل شخص منهم وعليهم كلهم مجتمعين مستقبله وقدرته على أن يتجند من أجل السلام. إلتزام كهذا لن يكون ممكنا إلا داخل مجتمع موحد. إنما الوحدة لا تعني التماثل. إن تماسك المجتمع يؤمن عبر الإحترام المستقر لكرامة كل شخص والمشاركة المسؤولة لكل إنسان، كل بحسب قدراته، بإستعمال أفضل ما لديه. لتوفير الدينامكية الضرورية لبناء وتعزيز السلام، يجب الرجوع بلا كلل لركائز الكائن البشري. كرامة الإنسان غير منفصلة عن الطابع المقدس للحياة الموهوبة من الخالق. في تصميم الله، كل شخص فريد وغير قابل للاستبدال. يأتي إلى العالم داخل أسرة، هي مكانه الأول للأنسنة، وهي، قبل كل شيء، مربيته الأولى على السلام. إذا لبناء السلام، يجب أن يتركز انتباهنا على الأسرة لتسهيل مهمتها، وذلك لدعمها، وبالتالي ترويج ثقافة الحياة في كل مكان. تعتمد فاعلية أي التزام من أجل السلام على الإدراك الذي يملكه العالم للحياة البشرية. إذا كنا نريد السلام، فلندافع عن الحياة! هذا المنطق لا يستبعد الحرب والأعمال الإرهابية فقط، بل يراعي حياة الكائن البشرية، الخليقة التي أرادها الله. اللامبالاة أو الإنكار لما يشكل طبيعية الانسان الحقيقية يمنع احترام تلك القواعد التي هي التشريع الطبيعي المدون في القلب الإنساني (رسالة البابا بندكتس السادس عشر بمناسبة يوم السلام العالمي 2007، رقم 3). إن عظمة كل شخص وسبب وجوده تكمن في الله وحده. لهذا السبب، فالاعتراف غير المشروط بكرامة كل كائن بشري، كل واحد منا، كما الإعتراف بطابع الحياة المقدس يتطلبان مسؤولية الجميع أمام الله. إذا علينا أن نوحد جهودنا لتطوير انثروبولوجيا سليمة تشمل وحدة الشخص. بدونها، لا يمكن بناء السلام الحقيقي.

رغم أنها تظهر جليا في البلدان التي تعرف صراعات مسلحة، فإن الهجمات على سلامة وحياة الأشخاص موجودة أيضا في بلدان أخرى. إن البطالة والفقر والفساد والإدمان بمختلف أشكاله، والاستغلال والاتجار بكل أصنافه، والإرهاب، تسبب، مع ألم ضحاياها غير المقبول، إضعافا للمقدرة البشرية. يريد المنطق الاقتصادي والمالي بلا هوادة أن يفرض نيره، وأن يقدم الامتلاك على الكينونة! لكن فقدان أي حياة بشرية هي خسارة للبشرية بأسرها. لأن البشرية هي عائلة كبيرة وجميعنا مسؤولون عنها. بعض الايدولوجيات في تشكيكها- بشكل مباشر أو غير مباشر، أو حتى قانوني- في القيمة الثابتة لكل شخص ولأساس العائلة الطبيعي تنسف أسس المجتمع. يجب أن ننتبه لهذه التطاولات على بناء وتناغم العيش معا. وحده التضامن الفعال يشكل الترياق ضد كل هذا. التضامن من أجل رفض ما يعيق احترام كل حياة بشرية، التضامن لمساندة السياسات والمبادرات بطريقة مخلصة وعادلة التي تهدف لتوحيد الشعوب. من الطيب رؤية أفعال التعاون والحوار الحقيقي تؤسس لطريقة جديدة للحياة معا. إن نوعية أفضل للحياة وللتطور الشامل غير ممكنة، إلا في مقاسمة الخيرات والمسؤوليات، ضمن إحترام هوية كل فرد. لكن أسلوب حياة مشترك وهادئ ودينامي كهذا لا يمكنه أن يكون بدون الثقة في الآخر، مهما كان هذا الآخر. اليوم، الاختلافات الثقافية والاجتماعية والدينية يجب أن تؤدي إلى عيش نوع جديد من الأخوة، حيث ما يوحد بالتأكيد هو المعنى المشترك لعظمة كل شخص، ولكونه عطية لنفسه وللآخرين وللبشرية. في هذا يوجد طريق السلام! في هذا يكمن الالتزام المطلوب منا! في هذا يقطن التوجه الذي يجب أن يقود الخيارات السياسية والاقتصادية، في كل المستويات وعلى نطاق عالمي.

إذا الواجب الأول لفتح مستقبل سلام للأجيال القادمة، هو التربية على السلام لبناء ثقافة سلام. التربية، في الأسرة أو في المدرسة، يجب أن تكون وقبل كل شيء تربية على القيم الروحية التي تعطي عملية نقل المعرفة والتقاليد الخاصة بثقافة ما، معناها وقوتها. يمتلك الفكر البشري الحس الفطري لتذوق الجمال والخير والحق. إنه الختم الإلهي، بصمة الله فيها! من هذا الشوق الكوني ينبع إدراك أخلاقي ثابت وصادق، يضع دائما الشخص في المركز. غير أن الإنسان يتجه نحو الخير بملء حريته فقط، لأن "كرامة الإنسان تتطلب منه أن يتصرف استنادا إلى إختيار حر وواع مدفوعا باقتناع شخصي يحدد موقفه، لا تحت الدوافع الغريزية أو الضغط الخارجي" (فرح ورجاء، 17). واجب التربية هو مرافقة نضج المقدرة على القيام باختيارات حرة وصحيحة، والتمكن من الذهاب ضد تيار الآراء الرائجة والموضة والايدولوجيات السياسية والدينية. تأسيس ثقافة السلام يتطلب هذا الثمن! يتحتم بالطبع حظر كل عنف شفوي أو جسدي. لأنه دائما تطاول على الكرامة الإنسانية، كرامة المعتدي وكرامة الضحية. بالمقابل، من خلال تقدير الأعمال السلمية وتألقها من أجل الخير العام، نخلق أيضا الاهتمام بالسلام. كما يشهد التاريخ، لفتات سلام كهذه لديها دور مهم في الحياة الاجتماعية والوطنية والدولية. التربية على السلام ستشكل كذلك رجالا ونساء كرماء وحقانيين، ومنتبهين للجميع، ومهتمين خاصة بالأشخاص الأكثر ضعفا. أفكار السلام، وكلمات السلام، وأفعال السلام تخلق مناخا من الإحترام والإستقامة والمودة، حيث يمكن الاعتراف بالأخطاء والإهانات بالحق للتقدم سوية نحو المصالحة. ليفكر رجالات الدولة والمسؤولون الدينيون مليا في ذلك!

يجب أن ندرك جيدا أن الشر ليس قوة مجهولة تتصرف في العالم بطريقة غير شخصية أو حتمية. الشر، الشيطان، يمر من خلال الحرية البشرية، عبر استخدامه لحريتنا. يبحث عن حليف، الإنسان. إن الشر يحتاج إليه ليتفشى. ومن ثم، بعد أن أهان الوصية الأولى، أي محبة الله، يأتي لإفساد الوصية الثانية، أي محبة القريب. معه تختفي محبة القريب لمصلحة الكذب والحسد والكراهية والموت. إنما من الممكن عدم ترك الشر يغلبنا، بل أن ننتصر عليه بالخير (راجع: روم 12,21). إننا إلى توبة القلب هذه لمدعوون. بدونها، ال"إطلاقات" الإنسانية المرجوة جدا تخيب، لأنها تتحرك داخل الفسحة الضيقة المنسجمة مع ضيق أفق الإنسان، وقسوته، وعدم تساهله، ومحاباته، ورغباته في الثأر، ودوافعه للموت. إن التحول في عمق النفس والقلب ضروري من أجل إيجاد بصيرة أكيدة وحيادية موثوقة والمعنى العميق للعدالة وللخير العام. نظرة جديدة وأكثر حرية ستمكن من التحليل والتساؤل حول الأنظمة الإنسانية التي تؤدي إلى طرق مسدودة، من أجل التقدم مع الأخذ بالإعتبار الماضي لكي لا نكرره أبدا مع تأثيراته المدمرة. إن هذه التوبة المطلوبة رائعة لأنها تفتح إمكانات بتعويلها على الموارد غير المحدودة التي تقطن قلب كثير من الرجال والنساء الراغبين في العيش بسلام والمستعدين للتطوع من أجل السلام. إنها وبشكل خاص متطلبة: لأنه يقتضي أن نقول لا للثأر، أن نعترف بأخطائنا، ونقبل الأعذار بدون التماسها، وأخيرا أن نغفر. لأن وحدها المغفرة الممنوحة والمقبولة تضع الأساسات الدائمة للمصالحة وللسلام للجميع (راجع: رم 12,16ب.18).

عندئذ فقط يمكن أن ينمو التفاهم الجيد بين الثقافات والأديان، والتقدير بدون استعلاء طرف ما على بقية الأطراف، واحترام حقوق كل منها. في لبنان، المسيحية والإسلام يعيشان في نفس الفسحة منذ قرون. ليس نادرا أن نجد أشخاصا من الديانتين يحملون إسم العائلة نفسها. إذا كان ذلك ممكنا في عائلة واحدة، لماذا لا يكون على صعيد المجتمع بأكمله؟ خصوصية الشرق الأوسط تكمن في التمازج العريق لمكونات مختلفة. إن المجتمع المتعدد لا يوجد إلا عبر الإحترام المتبادل، والرغبة في معرفة الآخر والحوار المتواصل. إن الحوار غير ممكن إلا في الوعي أن هناك قيما مشتركة بين جميع الثقافات الكبرى، لأنها متأصلة داخل طبيعة الشخص البشري. هذه القيم التي هي كالركيزة، تفسر الأوجه الأصيلة والمميزة للبشرية. إنها تنتمي لحقوق كل كائن بشري. ففي تأكيد وجودها، تقدم مختلف الديانات مساهمة قاطعة. ليس علينا أن ننسى أن الحرية الدينية هي الحق الأساسي الذي تركن عليه حقوق عديدة الأخرى. المجاهرة بالديانة وعيشها بحرية بدون أن يعرض الشخص حياته وحريته للخطر يجب أن يكون ممكنا للجميع. فقدان أو إضعاف هذه الحرية يحرم الشخص من الحق المقدس في عيش حياة كاملة على المستوى الروحي. إن ما يسمى بالتسامح لا يستأصل التعصب، إنه أحيانا يزيده. بدون الانفتاح على المتعالي الذي يسمح بإيجاد إجابات عن الأسئلة التي تثار في قلب الإنسان عن معنى الحياة وكيفية العيش وفقا للأخلاق، يصبح الإنسان عاجزا عن التحرك وفقا للعدالة وعن الالتزام في سبيل السلام. للحرية الدينية بعد إجتماعي وسياسي لا غنى عنه للسلام! إنها تروج لتعايش و حياة متناغمتين، من خلال الالتزام المشترك في خدمة القضايا النبيلة وعبر البحث عن الحقيقة التي لا تفرض نفسها من خلال العنف، إنما عبر "قوة الحقيقة نفسها" (كرامة الإنسان، 1)، هذه الحقيقة التي في الله. لأن المعتقد المعاش يقود دائما إلى المحبة. المعتقد الأصيل لا يمكن أن يقود إلى الموت. صانع السلام هو متواضع وبار. إذا للمؤمنين اليوم دور جوهري، وهو الشهادة للسلام الذي يأتي من الله وهو عطية تمنح للجميع في الحياة الشخصية والعائلية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية (راجع: متى 5، 9؛ عب 12، 14). تقاعس الأناس الصالحين عليه ألا يسمح للشر بأن ينتصر. الأسوأ هو عدم فعل اي شيء.

هذه التأملات القليلة عن السلام والمجتمع وكرامة الإنسان، وعن قيم الأسرة والحياة، وعن الحوار والتضامن لا يمكن أن تبقى مجرد مثل عليا معلنة. بل يمكن ويجب أن تعاش. نحن في لبنان وهنا يجب أن تعاش. لبنان مدعو، الآن وقبل أي وقت مضى، أن يكون مثالا. أيها السياسيون والدبلوماسيون ورجالات الدين، ويا رجال ونساء عالم الثقافة، أدعوكم إذا أن تشهدوا بشجاعة، في وقته، وبالرغم من العراقيل المحيطة بكم، أن الله يريد السلام، الله يستودعنا السلام. "سلامي أعطيكم" يقول لنا المسيح (يو 14,27)! فليبارككم الله! شكرا!".  

السابق
سليمان:على المجتمع الدولي فرض حل عادل للصراع العربي الإسرائيلي وقضية فلسطين
التالي
6 نقاط من الـ12 المتبقية ستضع «منتخبنا» في قلب المنافسة