القاهرة: حنين أقلّ

يتحرك الجسد بسرعة أكبر. ينفلش الجسد للضوء، للماء، للشمس. يصبح الجسد أكثر سماكة، أصلب في تحمّل الصوت والضوء والرائحة. في القاهرة، يكتسب الجسد سمات مختلفة. يصرخ الباعة، يغنّي الأولاد في منتصف الطريق، تتلاصق الأجساد، تتعب، تتألّم، تتكّئ على حافة درج، أو تنام على حافة رصيف.
يروح الناس ويجيئون، يمضون في المسار ولا يتوقّفون، فالمترو سريع والركاب كثر. تتغيّر «الأنا» وسط الآلاف، تصبح أرحب. الفرح أرحب، الحزن أخفّ، والتفاصيل أكثر.
تخفّ الحياة حين تكثر التفاصيل: ألوان الشبابيك، طعم شراب المنغا، رقّة النيل، حلاوة الحديث، ونضج جميل.
القاهرة مدينة ناضجة، تقول للعابرين بها، هؤلاء الذين يحتسبون خطواتهم ويعدّونها، بأن الحياة واسعة، والزمن سلطان حكيم، فلا وقت لعدّ الخطوات، ولا وقت للندم على ما جرى، أو على إعادة التفكير في أمور حصلت ولن تحصل مرّة ثانيّة.
تتمدّد على فراش الوقت وتستريح. تلامس استواءه وخفّته، الوقت مستو، والشمس ساطعة والجوّ صيفيّ.
تقول في نفسك إن القاهرة مدينة لا تتساقط الأوراق فيها في فصل الخريف ولا تعرف معنى الحنين. حين تنضج المدن، تضجّ الحياة، ويستوي الوقت، ويتوارى الحنين.
لا تحمّلك القاهرة، حين تغادرها، حنينا موجعا وفراقا أليما، وكأنّها تعرف كيف تبقى فيك من دون أن تحنّ إليها. الحنين تلجأ إليه المدن المتردّدة تعويضا عن فشل في الإقامة فيك.
ماذا يعني أن تزور القاهرة لأيام عدّة؟ ماذا يعني أن تشمّ رائحتها وتسير في طرقاتها وتركب نهرها، وتطلّع على تاريخها؟
يعني أن تعود إلى وطنك وبشرتك أكثر كثافة، ولونك أكثر سمرة، وأفقك أوسع، وبصيرتك ألطف، وذاتك أرحب، وخطاك أسرع، وجسدك مطواع أكثر، وحنينك أقلّ وجعا، وسماتك أنضج. 
 

السابق
السيّد ليس على علم بالمتفجرات
التالي
بلدية ميمس تدعو لوقف أعمال المسح بسبب مخالفات