قبل ان تستفحل

من المحزن والمعيب أن يقتل السفير الاميركي وتحرق قنصلية الولايات المتحدة في مدينة بنغازي الليبية، بعد أقل من سنة ونصف سنة فقط على منع الطيران الاميركي مجزرة كانت تعدّها قوات معمر القذافي للمدينة وسكانها. ومن المحزن والمعيب ايضاً ان يرفع مصريون علم تنظيم «القاعدة» على سور السفارة الاميركية في القاهرة في ذكرى اعتداءات 11 ايلول انتقاماً لفيلم مسيء انتجه اقباط في المهجر بالتعاون مع مخرج اسرائيلي، وليس للحكومة الاميركية اي علاقة به، لا من قريب ولا من بعيد.
ليس في امكان أحد بالتأكيد مجرد التفكير في الدفاع عن الفيلم المذكور او التعاطف مع معدّيه ومنتجيه، بل هو يستوجب الادانة والشجب الشديدين كونه ينطلق من عداء أعمى للاسلام والمسلمين ويستفز مشاعرهم ويهين مقدساتهم، لكن ثمة فرقاً شاسعاً بين ما حصل وبين ما يفترض ان يكون عليه اي احتجاج، تحت اي ذريعة كان.

ما جرى في المدينتين الليبية والمصرية عمل غوغائي محض لا يدخل في تقاليد الاسلام الصحيح، ولا يجيزه أي دين او قانون مهما اختلفت منطلقاته. انه انعكاس لفكر شمولي مريض يفترض ان كل ما يحصل في دولة ما انما يجري بتوجيه من سلطاتها وبرعايتها. وهو ما جرى ايضاً مع الدنمارك التي نشرت احدى صحفها الخاصة رسوماً مسيئة للنبي محمد (صلّى الله عليه وسلّم)، فهوجمت سفاراتها وأُحرقت وكأن حكومتها هي التي نشرت الرسوم.
ثمة فارق كبير بين مفهوم الدول، والغربية خصوصاً، للحريات العامة والشخصية والحريات الإعلامية، وبين تبني مواقف المتطرفين من مواطنيها. ويجب ان نتذكر ان الحكومة الاميركية دانت وشجبت تصرفات القس المتطرف تيري جونز الذي احرق نسخاً من القرآن في كنيسته، ومنعته من القيام بذلك في شكل علني.

والمبدأ نفسه ينطبق على المجموعات المتطرفة التي تدّعي الاسلام وتعتمد العنف وسيلة لإسماع صوتها وفرض رأيها. فهل يقبل المسلمون عموماً، والعرب منهم خصوصاً، ان يحاسبوا عن افعال «القاعدة» ومثيلاتها وأن يوضعوا جميعهم في سلة واحدة مع اسامة بن لادن وأنور الظواهري او اي متطرف آخر؟ فكيف يمكن اذاً ان ينسب الى الاميركيين جميعهم والى الحكومة التي تمثل غالبيتهم الساحقة أفعال قلة متطرفة منهم، وأن يحملوا جميعاً المسؤولية عنها؟
لقد انطلق الفيلم المسيء من الفكرة الشمولية ذاتها التي انطلقت منها الغوغاء في بنغازي والقاهرة. فهو حمّل المسلمين جميعاً المسؤولية عن اعمال قلة قليلة متطرفة منهم وحاول إلصاق تطرفها بالاسلام نفسه وبكتابه المقدس، ومن ردوا عليه في مصر وليبيا حمّلوا ايضاً الأميركيين جميعاً مسؤولية من صنع الفيلم وعرضه.

لكن الاخطر هو ان المتطرفين الذين استفادوا من ثورات «الربيع العربي» يحاولون فرض انفسهم طرفاً مقرراً في تحديد توجهات الانظمة الجديدة في دولهم، وهم مستعدون للجوء الى السلاح والعنف لتعزيز مواقعهم، مهددين بذلك ليس فقط «الاجانب الكفار»، بل ايضاً مواطنيهم من المسلمين المعتدلين ومن الاقليات المسيحية. والخشية هي ان يؤدي تطرفهم ورفضهم للآخر الى شعور الغالبية العظمى من شعوبهم بالندم على التغيير الذي ساندته.

لقد بذل المسلمون خلال العقد الماضي جهوداً جبارة للنأي بالاسلام عن صفة الارهاب التي حاول البعض إلصاقها به بعد جرائم «القاعدة» في العام 2001، والمسؤولية اليوم تقع على عاتق الانظمة الجديدة في مصر وليبيا وتونس لإزالة الصورة المفزعة التي ولّدتها تصرفات المتطرفين، ولضبط من يحاولون نشر اعمال التطرف والترهيب قبل ان تستفحل، ولإثبات انها تنتمي الى الاسلام الوسطي الواسع الصدر.
  

السابق
النفط للنواب…
التالي
مقال لافروف