عودة الدولة إلى جبل لبنان

يدفع العونيون يومياً كيلاً من الشتائم وأكثر ثمن بقائهم في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي. لكن التجوال في أقضية جبل لبنان تكشف الوجه الآخر للمشاركة العونية في الحكومة: عادت الدولة بزفتها إلى جبل لبنان، أو الأصح، هي في طريق عودتها إلى الأقضية التي حرمها نوابها السابقون المشاريع العامة لمصلحة المشاريع الخاصة الأربح في نظرهم انتخابياً

في المتن الشمالي، كما في بعبدا وكسروان وجبيل، ثمة طرقات شقها البغل و… عبّدها. فاقتصرت علاقتها بالزفت على لقاء عابر معه في عهد الرئيس فؤاد شهاب. وفيها طرق أخرى لا تزال معالم الآليات الحربية الثقيلة ظاهرة عليها، بعد أن استثنتها جمهورية الطائف من إنمائها المتوازن، موازنة بينها وبين بعلبك والهرمل وعكار. لكن أخيراً تغيّرت الأحوال هنا. على الطريق بين دكوانة المتن الشمالي وتجمع المدارس الكاثوليكية في عين سعادة، مشروع تبلغ قيمته 4 مليارات ويشمل توسيع الطريق وتزفيته وتدعيمه. ومن حدود الجديدة _ البوشرية _ السد الجنوبية إلى حدودها الشمالية، بدأت الأعمال أيضاً في المنطقة الصناعية التي كانت تفيض كلما هلّ فصل الشتاء، مغرقة التجمع الصناعي الأكبر في المتن الشماليّ. وصعوداً إلى بلدة رومية، لن يعود زوار السجن أو البلدة المتنية مضطرين إلى ركوب الدنبر ليصلوا إلى السجن أو إلى منازلهم، فسيبدأ خلال أيام تعبيد الأدغال هناك. وهكذا دواليك في شتى الأنحاء المتنية. تبلغ قيمة مشروع تأهيل طريق بعبدات _ الدوار _ ترشيش 9 مليارات، وطريق بسكنتا _ صنين 4 مليارات. وإضافة إلى المليارات الثلاثين للمشاريع الكبيرة، خصّت وزارة الأشغال الشوارع الرئيسية في القرى بحوالى 3 مليارات زفتاً، يفترض أن تتلون بها شوارع بيت شباب، مزرعة يشوع، رومية، المتين، بحرصاف، بعبدات، إنطلياس، بولونيا، زبوغا، كفرعقاب، زرعون، القرعور، زكريت، المروج، المنصورية وغيرها. أما كسروان فيربط مشروعها الأكبر نبع العسل في فاريا بيسوع الملك في ذوق مصبح بتكلفة تتجاوز 17مليار ليرة، ويشمل توسيع الطريق تزويده بحيطان دعم وتزفيته. ورغم بُعد نواب الزفت الكسروانيين دورتين متتاليتين عن المجلس النيابي، لن تُستثنى بلدة من الزفت الموزع هذا العام على البلدات الكسروانية بالمفرق. مشروع غزير _ جديدة غزير _ القطين تكلفته 4 مليارات، عينطورة _ بكركي _ غدير حوالى مليارين. وكل من بقعاتة عشقوت _ مدخل رعشين، وعرمون _ دليتا وعرمون _ الحياطة حوالى مليار ونصف المليار. وصولاً إلى جبيل، يتمكن زوارها قريباً من بلوغ قرطبا عن طريق نهر إبراهيم بحوالى عشر دقائق فقط على الطريق المعبد حديثاً، وعشر دقائق فقط ستفصل العاقورة عن جبيل وميفوق عن عمشيت. حقق نواب القضاء العونيون الثلاثة وعودهم الثلاثة لناخبيهم عشية الانتخابات، وانتقلوا ناحية قرطبا أو ميفوق أو لحفد يعوضون الكسل النيابي تجاه المشاريع الكبيرة.
هذا الزفت الدافئ الحلو الذي يبيّض رغم اسوداده وجوه بعض السياسيين، ليس منّاً تنثره السماء مرة كل أربع سنوات. ولا بد بالتالي من وقوف شخص أو مجموعة خلف الإنماء الأوتوسترادي الذي يشهده جبل لبنان.

فتقنياً، يرفع المجلس البلدي غالباً كتاباً بالطرقات التي يرغب في تزفيتها، ليتبرع أحد نواب المنطقة بملاحقته مع الجهات المعنية في وزارة الأشغال، وبعد موافقة الوزير، يبتّ مجلس الوزراء أمر الاعتمادات.
مشكلة جبل لبنان استعاضة نوابه السابقين عن المشاريع الكبيرة التي تفيد كل المواطنين على غرار أتوستراد الجنوب مثلاً أو زغرتا _ إهدن أو الكورة _ زغرتا بعربات زفت صغيرة تُسعد أبو حنا وأم أنطون وأم الياس وزلفا حبيبة قلب النائب السابق منصور البون، لتجميلها مداخل منازلهم. فكان يكفي أن يخص «الأستاذ» رئيس البلدية بـ«كميون» زفت، يرقّع به بعض الشوارع ومدخل منزله، حتى تهتف البلدة منتشية باسم «الأستاذ» ويعود سعادته إلى منزله سعيداً بـ«إنجازاته». والنتيجة: مناطق سكنية غير مترابطة، بلدات (سياحية) لا يمكن السيارات العادية بلوغها، وطرق فرعية بلا عواميد إضاءة أو جدران دعم أو زفت يسد حفرها.

التغيير الجديّ بدأ عام 2010. فبدخول العونيين غالبية المجالس البلدية في جبل لبنان، اكتملت السيبة الإجرائية _ التشريعية _ التنفيذية. ففي البلديات، أثّر العونيون على وجهة إرسال كتب الزفت البلدية. وبحكم قبضهم على التمثيل النيابي في الجبل، نظم نواب تكتل التغيير والإصلاح (ممثلاً بالنائبين إبراهيم كنعان وسيمون أبي رميا) حصرية علاقة وزارة الأشغال بهم في الجبل (رغم استثناءات صغيرة). وقد استحدث كنعان بالتنسيق مع عون فريق عمل يتابع معاملات الزفت في الإدارة العامة. وأسهمت رئاسة كنعان لجنة المال والموازنة في تفتيح عيون العونيين على كل ليرة تصرف ثمن زفت هنا أو هناك. كذلك فإن تمثيل فريق سياسي بوزير واحد في مجلس الوزراء شيء، وبعشر وزراء شيء آخر: ضغط الوزراء العشرة غير ضغط الوزير الواحد، وكذلك قدرتهم على مقايضة وزير الأشغال العامة بخدمات الوزارات العونية التي يحتاج فريق العريضي السياسي إليها بدوره. أما الأهم فالتزام العونيين بما كانوا يرددونه قبيل بلوغهم السلطة: ليس الزفت لاسترضاء أفراد، الزفت لمشاريع كبيرة تفيد الجميع دون استثناء. والمشاريع الكبيرة يتفق عليها نواب التكتل مجتمعين والفعاليات الأساسية في مناطقهم. والأهم أخيراً من تضاعف ميزانية الأشغال المخصصة لكل من جبيل وكسروان والمتن الشمالي وبعبدا حوالى عشر مرات بين عامي 2002 و2012، هو المشاريع الكبيرة التي تربط ما يصفه العونيون بالأقضية المسيحية بعضها ببعض، وأهمها تأهيل الأوتوسترادات التي تربط المتن بزحلة من جهة، وجرود المتن بجرود كسروان من جهة ثانية، وجرود جبيل بتنورين البترون.

ولأن الزفت لا يكفي الناخبين وحده، في الجيب الكنعاني دراسة تكشف تضاعف ميزانية هذه الأقضية الصحية خمس مرات خلال السنوات الخمس الماضية: بعدما كانت ميزانية الشوف الاستشفائية مثلاً ثلاثة أضعاف ميزانية المتن عام 2007، رغم أن عدد سكان المتن يوازي ثلاثة أضعاف سكان الشوف، باتت ميزانيتا الشوف والمتن الصحيتين متساويتين. وبالانتقال إلى الوزارات، يمكن الموظفين في وزارة الطاقة الحديث أشهراً وليس أياماً أو ساعات عن المشاريع التي استحدثت حتى الآن لري مناطق كاد التصحر يستفرد بها، وكسروان النموذج الأول على هذا الصعيد. أما النائب حكمت ديب، فيشرح أن قضاء بعبدا سيكون خلال عامين متخماً مائياً، فقد استملكت وزارة الطاقة أخيراً أرضاً لإنشاء خزان بسعة خمسين ألف متر مكعب في منطقة الوروار في الحدث، وأرضاً أخرى في الحازمية لخزان سعته 30 ألف متر مكعب، ستصلهما المياه من الأوّلي، فيما يفترض بسد القيسماني في خراج فالوغا _ حمانا أن يبدأ قريباً بتغذية 35 قرية بعبداوية جبلية بالمياه.

بعيداً عن المزايدات السياسية، ثمة تكتل يتقن الموازنة بين حضوره السياسي القوي رغم الحملات الشرسة عليه، ونشاطه التشريعي الاستثنائي بكل معنى الكلمة، وملاحقته مشاريع إنمائية ضخمة وجدية، سواء في وزارة الطاقة والمياه أو وزارة الأشغال العامة والنقل. أما الذنْب، فيتحمله النائب السابق منصور البون ما غيره: حين وضّب الأخير حقائبه لمغادرة مكتبه في المجلس النيابيّ، نسي فيه موسوعة تفنّد أجمل ما قيل عن الزفت، الدافئ الوهّاب الحلو الكريم. الزفت الذي يوصل الناخبين إلى أقلام الاقتراع، يرفع أسعار العقارات جبلاً وودياناً وينعش مناطق منسية و… أشخاصاً. نعم، يمكن النواب يوسف الخليل وجيلبرت زوين وسليم سلهب ونبيل نقولا وإدغار معلوف وناجي غاريوس وفادي الأعور إتعاب أنفسهم قليلاً ببيان يهنّئ ناخبيهم بالزفت ويذكّرهم عرضاً بهم.  

السابق
الجيش..فرصة الحكومة الأخيرة
التالي
سيادة!