السلام الباقي للإدانة

لست رسولاً، ولا أدّعي النبوة. أنا مذ صار النفس الأول مني خليطاً بالحياة، ابتدأ الـهدف. أن أصل إلى مكان ما، أقول بعده إني من هنا، ولهذا أتيت. خُلقنا على هيئة الرسالة المحكيّة بالصوت، وبالحركة، وبالشعور. الرسالة التي بهــا نقوم، ولها نسعى: تمجيد الإنسانيّة. من أيّ بلد كنا، ومن أي عرق، مسلمين أو مسيحيين، إناثاً أو ذكوراً، بهوية أو مكتومين منها، الهيئة ذاتها، والأهداف كثيرة.
والعالم في أوجّ ابتلاع الحياة، هناك غيوم تحيط، وسماء له: سلام كبير عليه السلام. في متن قلب الطفل المضرّج بالدم سلام، في السكين المسلّطة على الرّقاب سلام، لأن الموت بعد القــتل يثأر. في الكمان الذي يعزف من دون يدين سلام، في اللوحـة المبعثرة ألوانها بالجنون، في العابد الناسك، في الراقص على الصقيع، في المتصفح كتابه المهلل بالخيال، السارح في غير الوجود، في الأم المؤجــجة بالحنان، في الجنين المتأوّه لسلطة الضوء الأول، سلام بسلام.

منذ أول الكون، لم يكن الدم ألوان اللوحة الكبيرة المعلقة على حائط الفضاء، كلما تبوّأنا المناصب، وارتفعنا، رحنا «نطرش» اللوحة من المخمليّ في عروق «خدّامنا/ شعبنا»، لتصير على شكل المجازر. الهدف الأول للمجيء، امتثال الروح لسعة السلام. أن تكون إنساناً، يعني أن تحــطّم العلوّ الواصل إلى الـ«طرش»، يعني أن تكون وجه الخالق بالفعل، وبالراحة، وبالحب. وأقول، لست داعية، ولا إمام مسجد واعظ، أنا من لحم ودم، من قلب وروح، أنا مثلي مثل الضاحك على ما أقول، ومثلي مثل الأفضل مما أقول، مثلي مثلهم بالهيئة، والأهداف كثيرة.

أن تعرف من العلوّ: المقدّس، وتقف عنده. أن تعي التفافك بالملكوت، يعني أن تحرّم وتجرّم السكين الذابح يمامات الصباح، أن تقطع دابر المتوحشين، العارضين ملحمياتهم على العالم في الشاشات، المنقضّين على الأرواح باسم الله، أن تكتم التكبير وأنت في صلب الجريمة، أن تبيد من قناعاتك فكرة «تأليه» الزعيم، وتتبع النهج والقضية. النهج؟ يعني أن تُعمي بصيرتك عما يخدش تمجيد إنسانيّتك وإنسانية أخيك وصاحبك وابن عمك وشبيهك في النفس. أن لا تقول «باسم الله» الله أكبر وأنت غافل عنها. الله أكبر من المجازر، وأكبر من دناءة الروح الحافة نفسها بالعدم. أكبر لا بالغرور، إنما بالفضيلة.
لا تعاتب الله على ما اقترفوه باسمه، ولا تقل إنه «غافل عما يعملون»، لا يغفل الخالق عن خلقه، لا تزيح الأم عينيها عن طفلها الذي يئن من الوجع. لا يغفل الخالق عمن يصرّ على غفــلته. كما يثاب هذا، يدان ذاك. لأننا ولدنا أحراراً، راح الملطّخ لحريّته يستعبد من لم يلتقــطها بعد. سوريا ليست منسيّة، ولا العراق ولا فلسـطين، ولا أي مذبوح على الطريق، سلام عالق لم نمسك بيديه، لنستبدل به الدروب المقفرة. كما صار بالأمم الغابرة، التي عاثت دماراً، لتبتلعهم العدالة في الجحيم، سيصير بالأمم التالية. سيصير حقاً، ولهم أيّامهم المنتظرة.

تمجيد الإنسانيّة لا يقال، بل يُصرخ، وتتكاتف من أجله الأيادي، أنا وأنت وهو البعيد.. تخيّل درباً واحداً سالماً آمناً نمشي إليه، من دون أي خوف من الخائن «اللاطي» بجنب الطريق، ولا بالحفر نقيض النجاة، ولا بالغبار. أن تنعش بالصدمات كلّك، وتقوم، أن نستبدل العيون بالقلوب، والأقدام بالأجنحة، والموت بالقيامة.
هل تذكرون الحكاية حين ارتجل آدم إلى الشجرة، وحواء جنبه، ليلتقط التفاحة التي «باسم الله» أقنعه إبليس بأكلها. فكان أكبر ما همّ آدم أن يصير بعد الهبوط إلى الأرض- بالسلام الذي يشيّدها- عدواً. لا يصير السلام بعد كل الذي ينويه إبليس داخلنا، بالسهولة التي يبسطها وجوده، أن تهمّ أنت أولاً إليه، ليقوم بعدك غيرك، حتى نصير، كلنا، وجهه.

الغفران وحده الحل.
مقصّرون نحن الذين خلف مكاتبنا، وفي بيوتنا، وعلى الأرصفة الآمنة. مقصّرون بأيادينا القصيرة، وبأصواتنا الخافتة، وبإيماننا الذي نلصـقه بالزفت لنقول: الله غافل عمّا يعملون. هي قوة تصير منسيّة بالعقل لا بالدور الذي هي حقاً فيه، إلى أن راح العالم يمجّد القامات، ويستبشر بقوتها، صار الجوف يبحث عن مبتغاه وحده. الجوف الإنسانيّة.
بقدرة الحامل على ظهره أكوام الجثث، بيديه اللتين انتشلتهم من الوجود، أن ينزع عنه سمات الخلق والهدف، وأن يصير قرداً لاهثاً خلف القمامة. يمكنه أن يكون شيئاً فظاً، ولكن لا يمكنه كتم عطر الأرض الذي فاح من الشهيد، من متن السلام… سلامٌ مصفى بالدماء، باقٍ للإدانة.  

السابق
هذه الجامعة.. ما اسمها؟
التالي
تسميم خنازير برية في زبقين