موقف جاهز

على الرغم من طغيان المواقف الجاهزة وتمترس الجماعات والأفراد خلفها بثقة غريبة، ما زلت أستغرب أن يأخذ إنسانٌ موقفاً. كيف يسكن لموقف ويدافع عنه، أو يقاتل لأجله؟ سؤال محيّر بالنسبة إلي، ولا أحسد أحداً على فعل ذلك. ولا يغريني البحث في الموضوع فلسفيّاً وعلميّاً. وفي الوقت نفسه لا أتّهم صاحب الموقف بالسطحيّة.
هكذا، يتفاقم الاستغراب. أستغرابٌ لا يخلو من خيبة، ولا من احترام للإنسان وعقله. ولست بلا موقف. ثمة أمور لدي إزاءها مواقف، ومع ذلك لا أقدّسها وأستشرس في الدفاع عنها.
لا أستغرب أن تنتشر المواقف في زمن «نشر الديموقراطيّة». فهذا النشر وديموقراطيته يغذّيان المواقف تلك ومتاريسها. وهما، أي النشر وديموقراطيّته، آلية حروب أكثر مما هما آليّة تعايش وبيئة حوار وتفاعل. ولآلية الحروب والمواقف أدواتها وناسها وأيديولوجيّاتها وسياساتها وتيّاراتها وجماعاتها وأحزابها وأجهزتها ودولها وتمويلها.
لهذا أستغرب أن يأخذ أناسٌ خارج تلك المنظومة مواقف حاسمة قاطعة. أستغرب أن تؤخذ مواقف منجذبة إلى تلك المنظومة ومتأثّرة بها ولا تخرج عن خطابها وأجندتها. أستغرب لأني أؤمن بأن الإنسان حرٌّ وقادرٌ على البحث عن معرفة أذكى من الموقف وألطف، ولا سيما الإنسان الذي خاض تجربة سياسيّة وعقائديّة وحزبيّة، أو عاش محنة حروب وصراع منظومات.
وهنا، تبدأ المشكلة. هنا، يتفاقم الاستغراب. أستغرب أن تمر اللعبة مرّة أخرى على الناس عموماً وأولئك خصوصاً. ومنهم من خرج من تجربته السابقة ناقداً وساخراً منها ومن بداهاتها وقيودها واستثمارها من جانب أقليّة وخداعها لأكثريّة. أستغرب العودة إلى المربّع الأوّل. وأحياناً بالثقة ذاتها واللغة عينها.
استغرب لأن الموقف الجاهز أكسل الطرق وأقصرها إلى الوقوع في تلك المنظومة، وإلى خريطة أفرقائها ومذاهبها. ولا ينجو من ذلك من يتجهون عكس المذهب الذي ولدوا فيه. وكأن المذهب قدرٌ وهو ليس كذلك. هذه الآليّة وتلك المنظومة وأولئك يجعلونه كذلك، فيما يمكن التحرّر منه ومن هذه الميكانيكيّة الضيقة المحدودة القاتلة.
ثمة مواقف كثيرة أخرى يمكن اكتشافها واجتراحها. مواقف كثيرة بعدد الأشخاص وأكثر. وهذه هي الديموقراطيّة التي لا تتعامل مع المواقف الجاهزة ومذاهبها وأصحابها وأتباعها وترسّخهم وحسب، وإنّما توفّر بيئة حوار للمواقف والبشر. وإلى أن يتحقّق ذلك العلاج في البحث والمعرفة والحوار إذا أمكن.
 
 

السابق
800 غرام من الحشيشة تحت برميل للمياه في سجن روميه
التالي
المساعدون القضائيون في النبطية يطالبون بتوظيفهم