الواقع التعليمي بين مطرقة الجشع الخاص.. وسندان غياب الثقة بالرسمي

حين كبرت ريم وأصبحت في سن الدخول إلى المدرسة، كَبُرَ الهم عند أبي جواد، "إنه همُّ المدرسة وأقساطها الباهظة التي تكسر ظهر المواطن، البحث عن مدرسة مناسبة كان في سلم أولياتي أريد أن تتعلم ريم وتكون متفوقة، لا أريد أن أسجلها في مدرسة رسمية، لا أثق بتعليمها، والمدرسة الخاصة أقساطها جدا مرتفعة أكبر من قدراتي". إنها حيرة أهل وجدوا انفسهم في دوامة الفراغ التعلمي غير الموثوق في زمن الجشع الذي أصاب المدارس الخاصة التي تفرِّخ كما الفطر، وتستبيح الفضاء التعليمي عبر تقنيات حديثة أدخلتها لا يستفيد منها إلا الأغنياء..أما محدودو الدخل فلا مكان لهم في سلم التطور التعليمي.. فالهدف عند تلك المدارس الربح السريع أي أنها تجارية.. فيما المدارس الرسمية تقف عند الروتين الذي يحتاج الى "نفضة" تعيد لها زمام السيطرة على قوس التعليم الفعال…

مدارس نكهة خاصة
بين موس الأقساط التي ارتفعت فجأة وسكين الزودة التي لم تهطل يرزح الطالب اليوم، فطلاب كثر خرجوا الى ساحة العمل باكرا وهم لم يتجاوزا الـ11 عاماً لكي يجمعوا أقساط المدرسة الباهظة، أكرم (12 عاما) يعمل منذ اكثر من 3 سنوات في مهنة ميكانيك السيارات "لكي أجمع المال وأساعد أبي على مصاريف المدرسة الكبيرة فنحن أربعة أولاد كلنا في المدرسة الرسمية ولكن هناك الكتب والقرطاسية والملابس ورسم الدخول، كلها تحتاج الى أموال و"الحالة بالكحالة"، وما زاد الطين بلة ارتفاع أقساط المدارس الخاصة، بين 2 مليون و6مليون ليرة كنت أعزم على إكمال الثانوية في مدرسة خاصة ولكن عكفت عن قراري فالأقساط أكبر من قدرات والدي الذي يعمل حداد سيارات والزودة لم تطله، هل هذا عدل؟
بالمقابل يقرأ مدير مدرسة كفررمان الثانية علي فرحات في واقع التعليم الرسمي والخاص بعد إرتفاع الأقساط وغياب الرقابة ومعها السياسة التربوية إذ يقول "منذ عشر سنوات ورواتب الأساتذة لم ترتفع فيما الأقساط إرتفعت من مليون الى 6 ملايين ليرة في بعض المدارس واليوم بدأت تتداول مسألة إرتفاع أجور المعلمين ليزداد اكثر جشع أصحاب المدارس الخاصة..”.

فللمدارس هذه السنة "نكهة خاصة" بلون الغلاء، فما إن فكَرت الحكومة أن ترفع المعاشات، حتى سبقتها المدارس الخاصة الى رفع الاقساط، لم يخضع قرارها الى "هرج" سياسي ومرج "خلافي"، لأن المدارس الخاصة تعرف مصلحتها جيدا، إرتفعت الأقساط والزودة على المعاشات ما زالت عالقة في أسوار التخبطات الحكومية غير المبررة. ولكن هل تطال الزودة كل المواطنين؟ طبعاً لا، فهي تصل الى نسبة محدودة منهم، وبالتالي عدد كبير من الأهالي لم تصلهم الزودة ولكن طالتهم الأقساط. معادلة بحد ذاتها شرسة ومقيته بدأ يعد لها أبو أكرم ألف حساب: "القرطاسية، الكتب، الزي المدرسي، لجنة الأهل، قسط المدرسة، وهلم جرّا من تلك الشلة الباهظة الثمن، تهز عرش سكون أبو محمد الذي يملك خمسة اولاد فكيف سأتمكن من تلبية كل الإحتياجات وأنا الذي لا يتجاوز ما أجنيه الـ400 دولار في الشهر؟ فكيف سأعلم أولادي خاصة أنني لا أثق بتعليم المدرسة الرسمية والخاصة تسلخ جلدنا؟

          

أميّة قادمة
إذاً الوضع التعليمي على المحك، إذا إستمر الحال هكذا فهناك كثر من الأهالي لن يتمكنوا من تعليم أولادهم في ظل الظروف الإقتصادية الضاغطة وبالتالي الأمية ستكون قادمة، وبحسب آخر تقرير للتنمية البشرية المستدامة الصادر عن برنامج الامم المتحدة الانمائي في العام 2011 فإن نسبة الأمية في لبنان تجاوزت الـ10%، وهذه النسبة بحسب الدكتور هاشم بدر الدين- "كبيرة إجمالاً في عصر العلم حيث بلغت نسبة الامية في عشرات الدول نسبة 0%.
ولكن هل التعليم الرسمي في خطر؟ هل هو عصر المدارس الخاصة النموذجية التي تقسم المواطنين بين فقير وغني؟ ألا يحل وجود سياسة تربوية واضحة أزمة الثقة التي تسيطر على المدرسة الرسمية التي تقف في أغلبها فارغة من الطلاب رغم أن الدولة تدفع أجور المعلمين فيها (زوطر الغربية، يحمر ارنون وغيرها)؟ هي أسئلة مشروعة في تحليل صورة الواقع التعليمي في مدينة النبطية الذي يعيش ازمة ثقة، فالإسم عالِ والمطحنة التعليمية لم تعط العلم المرجو، "نتيحة السياسات التربوية الفاشلة" يقول بدر الدين (قد تكون متعمدة، وقد تكون نابعة من جهل مطلق)، إضافة الى معايير إجتماعية وإقتصادية عديدة ، ولم تنجح السياسات التربوية الهادفة الى رفع شأن المدرسة الرسمية (بحلقاتها الاولى على الاقل)، على تغيير هذا الواقع”.
واقع أصاب المواطن بحال هستيرية على أبواب المدارس، فالرسمية غير كفوءة 80% منها لا ثقة فيها لأنها مدارس سائبة و20% منها جيدة ما يضطر الأهالي الى طرق أبواب المدارس الخاصة التي تستغل الظرف للإتجار بالعلم والناس معاً، "فالتعليم في المدارس الخاصة "صفقة تجارية" لذا يجب شد أوزار الرسمية وإعلان حالة طوارئ داخلها لكسب ثقة المواطن وهذه مسؤولية وزارة التربية" حسب قول أمين سر جمعية دعم التعليم الرسمي رشيد فحص. الذي يرى أنه "لا ينقص المدرسة الرسمية حتى تصبح مدرسة بكل معني الكلمة سوى نوع من الإهتمام "الشعبي" بيد أن الصورة اليوم "ان الناس بوادٍ والعمل التربوي في وادٍ اخر…مؤسساتنا جيدة لكن لا يوجد من يهتم بها، فتحولت "إدارة المدرسة التي هي تكليف وليس تشريفاً إلى "وجاهة" ما إنعكس فشلا في السياسة التعلمية التي يرها فحص "تخرب المدرسة فحين يُرفع الغطاء السياسي عنها تعمل بشكل جيد جداً”.

معايير دعائيّة
حين تعبر شوارع النبطية تتفاجئ بحجم الدعاية التي تشنها المدراس الخاصة، كل يضع معاييره ويقول "ان الاسعار مدروسة" يضحك ابو محمد في "عب الخديعة "المدروسة!!! كيف؟ هو أب لثلاثة أولاد ويريد ان يسجل اولاده في مدرسة خاصة فهل يقدر على ذلك؟ طبعاً لأ. لأن القسط يتجاوز الألف دولار، وثلاثة أولاد يكلّفون ثلاثة آلاف دولار، فضلاً عن الكتب والقرطاسية، بما يوازي الخمسة ألاف دولار، والذي يعمل ميكانيكي والشغل متل حال البلد "واقف… شو بيعمل" دفع غياب الثقة بالمدرسة الرسمية "جعل المدارس الخاصة – بكل أنواعها – تتحكم بمفاصل التعليم في لبنان" يقول الدكتور هاشم بدر الدين الذي يرى أنها نجحت في "حصدها الجوائز الأولى في الامتحانات الرسمية، وفي المسابقات العلمية والأدبية، والمشاريع العلمية، المحلية والدولية مما رسخ قناعة لدى الاهل بأولوية المدرسة الخاصة على المدرسة الرسمية. فالأولى باتت تشكل نوعاً من الهيبة الاجتماعية للاهل، في حال تسجيل أبنائهم في مدارس خاصة معروفة، وبات عرفاً عند الاغنياء ان يكونوا في هذا المدرسة الخاصة دون سواها، فيما تحولت المدارس الرسمية بأغلبها الى مدارس الفقراء.
قراءة الصورة التعليمية تشير الى وجود 80% من المدارس الرسمية تعيش حالة ترهل تعليمي، بالمقابل تستغل المدرسة الخاصة حاجة ورغبة المواطن بالحصول على تعليم غير معلب ومنهجية متطورة، تبرر "تفريخها"، كل عام يشهد ولادة أكثر من خمس مدارس خاصة تواكب التطور العلمي، لوح ذكي، حاسوب، مسابح، مطعم، رحلات، أندية رياضية، غياب الكتاب، المغريات التي تقدمها كبيرة، ولكنها لا تغر المواطن العادي لأنها اكبر من طموحه، قسطها يتجاوز الـ6 مليون ليرة أي أنها مدارس الأغنياء. بالمقابل هناك مدارس رسمية جرى إفتتاحها قبل أربع سنوات وما زالت موصدة الأبواب كمدرسة زوطر الغربية التي دشنها الرئيس نبيه بري في إحتفال حاشد، وكان يعول عليها لكي تسد رمق البلدة من التعليم ولكن على من يتم رمي الملامة؟ "الطاسة ضايعة". وحال مدرسة زوطر الشرقية ويحمر وارنون وهلم جرا ليس أفضل فعدد الطلاب داخلها لا يتجاوز أصابع اليد بل يمكن القول ان الكادر التعليمي عدده اكبر منه…

جُبنٌ نفعي!
ما يطرح التساءل، إلا يحق للطالب المنحدر من طبقة متوسطة وفقيرة ان ينعم بتلك التقنيات ام انها حق حصري لاصحاب الثروات؟ المؤكد الوحيد أن غياب السياسة التربوية الواضحة من قبل الدولة، فضلا عن عدم تعزيز المدرسة الرسمية التي أصابها "ألكبر" في قدراتها وطاقهما التعلمي سهل صعود "المدارس الربحية التجارية" يقول مدرير مدرسة كفررمان الثانية علي فرحات الذي يلفت الى أن المدارس الاخرى "ألذكية" التي تلعب على وتر "غش وخداع إعلامي من قبل المدارس الخاصة بأنهم يواكبون التطور التكنولوجي في التعليم والحقيقة مغايرة، إنها خدعة من اجل إستقطاب وتسجيل أكبر عدد من التلامذة هذا عدا عن اسعار الكتب الخيالية والبعض منها بأسعار العملات الأجنية، وقد يصل سعر الكتاب الى اكثر من 75$ وهذا المواطن يتخبط في مسألة إختيار المدارس لأولاده فمن المسؤول!!!.
بإختصار إن عفاريت الأقساط تقض مضاجع الأهالي الذين يصرخون بصوت منخفض، صوتهم لم يسمعه سوى الأوساط الشعبية، وهذا بحد ذاته "الغبن الاكبر" الذي يلحق بهم لأن المواطن يبلع "الموس" دون أن يحرك ساكنا، ترتفع الاقساط، تفشل المدرسة، لا ينبس ببنت شفة، وهذا بحد ذاته "جبن" يستفيد منه أصحاب المدارس الخاصة، التي عرفت كيف تستعل "القطبة المخفية" في ضعف المدرسة الرسمية، وتمسك بها بحرفية جعلتهم يحتكرون الفضاء التعليمي ويضعون قواعدهم ونظمهم، يتحكمون بالأسعار". الملخص الاكيد أنه لو كان هناك سياسية تربوية واضحة وإصرار على النهوض بالصروح الرسمية لما وقف المواطن عاجزا عن اللحاق بركب التطور العلمي الذي يبدو أنه يحتاج الى ثورة للحد من جشع المدارس الخاصة ومن الفساد التربوي الذي يصيب أغلبية المدارس الرسمية.  

السابق
الاكيد أن حزب الله لن يواجه مأزقاً في حال سقوط النظام السوري..
التالي
لا مفرَّ لي