كم من سماحة يقف في الطابور؟

بعدما خفّ وهج قضية الوزير السابق ميشال سماحة عن دائرة الضوء ومنها، يمكن للحديث الهادئ أن يُلقي الضوء على بعض ظروف العمل على الساحة السياسية اللبنانية.
قد يكون سماحة صادقاً بقوله إنّها المرّة الأولى التي يتمّ استخدامه فيها بهذا المنحى، وقد لا يكون. لكنّه صادق بكونه هو من عرض تقديم الخدمة "أثناء سماعه" قلق المسؤولين السوريّين من عناصر المعارضة المسلّحة وانطلاقها من لبنان ووجوب تشتيت صفوفها وعرقلة عملها بتهريب السلاح… ألخ.

ففي علم الاستخبارات، لا يُطلب من المخبر أو من الصديق أو السياسي أيّ طلب بشكل مباشر، بل يتمّ التعبير عنه أو الحاجة إليه بطريقة غير مباشرة، وفي ضوء ردّة الفعل يتمّ التعاطي بالتفاصيل وصولاً الى التنفيذ.

ولعلّني أسرد هنا واقعة لا يدركها كثيرون، وهي تلك التي حصلت مع الزعيم وليد جنبلاط أثناء اللقاء مع الرئيس حافظ الأسد عام 1984 عندما أشار الأخير أمامه إلى أنّ الحكمة السياسية والعسكرية تقضي بالهجوم على سوق الغرب بما يحدّ من عهد الرئيس أمين الجميّل ويدفعه إلى التخلّي عن اتّفاق السابع عشر من أيّار. ومضى الأسد يقول إنّ "أبو موسى" و"القيادة العامّة" و"الصاعقة" وبعض "القوى الوطنية" يمكن أن تشارك في هذه المعركة.

ونظراً إلى الحذاقة السياسية التي اشتهر بها جنبلاط واستشعاره الخطر الذي يمكن أن ينجم عن احتمال انتشار مثل هذه القوى في الجبل قبل المعركة وبعدها، وتعريض ديموغرافيته لكلّ الاحتمالات، فإنّه سارع الى القول إنّ الحزب التقدّمي سيتولّى هذه المعركة وفق ثلاثة عناوين ومطلبين:

العنوان الأوّل: إسقاط اتّفاق السابع عشر من أيّار، بما هي قضية وطنية.

الثاني: ريادة العمل الوطني والتقدّمي.

الثالث: الحفاظ على الجبل وإسقاط كلّ التأويلات التي رافقت زيارة شيمون بيريس لقصر المختارة أثناء الاجتياح الإسرائيلي عام 1982.
أمّا المطلب الأوّل فكان تأمين الكمّية الكافية من السلاح، فيما قضى الثاني بتأمين الإسناد المدفعي.

وهكذا كان. وكانت معركة سوق الغرب التي خاضها العماد ميشال عون كقائد لجبهة سوق الغرب في حينه، والحزب التقدّمي من الجهة المقابلة. وكان لهذه المعركة الأثر الكبير في موافقة الرئيس الجميّل على إلغاء اتّفاق السابع عشر من أيّار والذهاب إلى جنيف ثمّ إلى لوزان لتسوية سياسية أكّدت بقاء موقع رئاسة الجمهورية.

بعدها، قال جنبلاط في أحد مجالسه الضيّقة تعليقاً على مقتل 113 شاباً من أبناء الجبل، على ما أذكر: "لقد افتديت بهم الجبل". لقد كان الاستشعار الجنبلاطي للخطر الآتي سبباً لموافقته على المشاركة في مثل هذا القرار الكبير في تاريخ لبنان.

في المقابل، ماذا كان يرتجي سماحة من تقديم نفسه أو خدماته للمسؤولين السوريّين، وهو المعروف عنه بأنّه من أقرب المقرّبين الى القيادة العليا بكلّ أركانها، وهو الذي وصل أكثر من مرّة الى مناصب وزارية بفعل هذه الصداقة، باعتبار أنّه من أبناء الطائفة الكاثوليكية التي يحدّ النظام اللبناني من وصولهم الى أكثر من هذا المنصب.

الجميع يتحدّث عن طريقة موافقة هكذا شخصية على هكذا فعل، لكن قلّة هم الذين أشاروا إلى ما كان يمكن ان يحدث لو سارت الامور وفق ما كان مخطّطاً.

القتلى في كلّ الاتجاهات، الفتنة في طول البلاد وعرضها، ظلال من الشكّ على زيارة البابا بينديكتوس السادس عشر، اتّهامات لإسرائيل و"القاعدة"، اتّهامات للسلفيين والأصوليين، إلقاء اللوم والمسؤولية على قوى الرابع عشر من آذار و"الجيش الحر" ومهرّبي السلاح، وعلى الأجهزة الأمنية اللبنانية من جيش وقوى أمن. وللقارئ أن يتصوّر أيّ لبنان كان سيكون لو قُدّر لهذه العملية النجاح.

ويبقى السؤال: ماذا كان سيجني سماحة أكثر من منصب وزاري، وهل كان هذا المنصب يستأهل كلّ هذه الدماء وهذه الفتنة؟ وما أهمّية أيّ منصب وزاري عندما لا يكون له قيمة في بلد ضعيف خائر القوى والمؤسّسات.

وإذا كان سماحة قد تمّ كشفه، فإنّ السؤال يصبح مشروعاً: كم من الوزراء والشخصيات، قبل سماحة وبعده يقفون في الطابور، وما هي التفجيرات التي قاموا بها أو سيقومون بها على حساب وطنهم وأبنائه، وإلى متى سيبقى الانتماء إلى الوطن مرهوناً بصداقة خارجية أو استدراج الوطن إلى محاور لا قِبل للوطن والمواطن بها؟

لعلّ المطلوب اليوم، في ضوء جريمة سماحة الموصوفة، إطلاق طاولة حوار لإعادة بناء ميثاق وطنيّ يقوم على أساس أنّ لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه فعلاً لا قولاً، وأنّ عقاب من يستقوي بالخارج هو الخيانة العظمى، وإلّا فإنّنا سنستمع الى أعذار أقلّ تفاهة من: "هيك بدّو".  

السابق
إسرائيل و100 ألف حمار !
التالي
قوّات ماذا؟