مقاومة ضدّ مقاومة

 ليس موقف «حزب الله» اللبنانيّ من الثورة السوريّة مجرّد تعبير عن وفائه للنظام السوريّ، وعن حاجته إليه، وهو أيضاً لا ينبع فقط من اشتراك الطرفين في حلف إقليميّ واحد. هذا كلّه صحيح ومؤكّد يصرّح به الطرفان ولا يتكتّمان عليه، إلاّ أنّه، مع هذا، غير كافٍ للإحاطة بالعلاقة تلك.

فهناك بنيويّاً تناقض لا سبيل إلى رأبه بين «حزب الله» والثورة السوريّة، والتناقضُ هذا هو الوعاء الأعرض الذي ينضوي فيه تباين السياسة والأحلاف.

ذاك أنّ مقاومة «حزب الله»، التي فقدت آخر مبرّراتها في 2000، تقوم على افتراض الوطن (وهو، هنا، لبنان) ساحةً إقليميّة، فيما تقوم مقاومة الثورة السوريّة على إعادة استخلاص الوطن (وهو، هنا، سوريّة) من براثن تحويله موضوعاً إقليميّاً. المقاومة الأولى تحجب السياسة ولا تعبأ بالرأي ولا تكترث للحريّات والاقتصاد والتعليم والصحّة، لأنّ القضيّة الفعليّة كامنة «هناك»، والمقاومة الثانية تحوّل الطلب على السياسة والرأي والحريّات والاقتصاد والتعليم والصحّة إلى ثورة، لأنّ القضيّة الفعليّة تقيم «هنا». وهذا ما ينشئ صلة فكريّة، إذا صحّ التعبير، بين «حزب الله» والنظام السوريّ الذي أسّس النظريّة القائلة بأنّ القضيّة الفعليّة «هناك». إلاّ أنّه، في المقابل، ما يجعل الثورة السوريّة امتداداً لضرب من الوطنيّة قضت عليه مبكراً الانقلابات العسكريّة «القوميّة» التي وجدت تتويجها في انقلاب البعث.

ثمّ إنّ مقاومة «حزب الله» مقاومة للمقاومة، أي أنّها غاية بذاتها، الأمر الذي تدلّ إليه مروحة الأهداف اللفظيّة الممتدّة من مزارع شبعا إلى المسجد الأقصى. ولأنّها كذلك، فإنّ تمجيدها العنف رافق ولادتها الأولى ونما وتضخّم في موازاة نموّها وتضخّمها. أمّا المقاومة التي تنطوي عليها الثورة السوريّة فاضطراريّة، بمعنى أنّ الثورة بدأت سلميّة، وهتفت، ولا تزال تهتف، للسلميّة، كما كانت الأفكار والقيم الأولى التي عبّرت عنها تمجّد السلميّة إيّاها وتجهد لتوكيد القواسم المشتركة مع ثورات تونس ومصر واليمن. لكنّ العنف الذي أبداه النظام، ولا يزال يبديه، هو ما دفعها إلى درجة من العنف والعسكرة كان يؤمل تفاديها.

بلغة أخرى، فإنّ مقاومة «حزب الله» هجوميّة تريد بلا انقطاع أن تخترع أسباباً لسلاحها تبقيه قادراً على أداء الوظائف الإقليميّة المنشودة، فيما مقاومة الثورة السوريّة دفاعيّة كان يكفيها كي تتوقّف أن تحلّ إصلاحات جدّيّة، فحينما تأكّد أنّ هذا النظام لا يقوى على أيّ إصلاح صار يكفيها أن يرحل بشّار الأسد ونظامه.

وهذان الاختلافان الكبيران معطوفين على تباين الاصطفاف السياسيّ، هما مصدر الأهميّة التي اكتسبها تباين اللونين المذهبيّين الطاغيين على المقاومتين، في زمن الهويّات الصغرى والتنازع السنّي – الشيعيّ. لكنْ حتّى هنا، كان اصطباغ «حزب الل»ه بلون مذهبيّ عملاً اختياريّاً وواعياً، صحبه سحق المقاومات اللبنانيّة غير المذهبيّة. أمّا اللون السنّي البارز في الثورة السوريّة فبقي تعبيراً أقرب إلى العفويّة، يعكس تركيب المجتمع الذي زاد النظام البعثيّ انقساماته الأفقيّة وفاقمها.

لهذا كله لم يمكن محاولات التوفيق أن تحرز أيّ نجاح: فلا «كلّنا إخوان»، ولا «كلّنا عرب»، ولا «كلّنا مسلمون»، ولا «كلّنا ضدّ إسرائيل ونريد تحرير فلسطين»…، وهي تلفيقات كثيرة جدّاً عندنا، أفلحت أو أحرزت موقعاً لها. وهذا خلاف أفيد من الاتّفاق ألف مرّة.

 

السابق
نجاحات مبدئية لرئيس مصر “الإخواني”!
التالي
سيناريو قيد الإعداد لإطلاق سماحة