ابو حجر ..

 بعد غربة طويلة حملت في طياتها الصفراء ، عمراً امتد من الطفولة

الى الكهولة ..رمتني في احضانها الباردة بشاعة الحرب الاهلية ، والطائفية

البغيضة ، التي عصفت بوطن المحبة والنور ، فأحرقته ، وقتلت شعبه

وشردت الباقي ….                                                        

عدت بعد رحلة طويلة من التسكع على دروب غريبة ، وجدت فيها كل

ما احلم به ، ولكنني لم اجد وطناً …                                      

لذلك قررت العودة والسجود في محرابه فربما غفر لي بعدي عنه

كل هذا الزمن …                                                        

في هذه المرحلة من العمر ، وبعد كل هذا الشقاء ، لا يبقى للانسان الا

ذكرياته ، وكان اكثر ما يشدني هو ذكريات الطفولة ، ورفاق المدرسة

والساحات التي كانت جنة فرحنا ومأوى برائتنا ….                      

ذلك الجزء الصغير من مرحلة الحياة لا يُنسى ولا تمحوه الايام ..    

كان حنيني لمرتع الطفولة يقلق ذاكرتي ،فلم يهدأ يوما ،ولم ينم قط ، يأخذني

كل يوم الى ذلك المكان الذي يسمى "عين الورد" تلك العين الصافية التي

تفيض عذوبة وجمال ، حيث كانت مزهوة بنفسها وكأنها اّلهة في وسط غابة

من شجر الصفصاف والحور والبيلسان …                                  

في هذا الفردوس قضيت طفولتي قبل ان يسرق جحيم البلاد البعيدة زهرة

العمر …                                                                      

سرت بأتجاه "عين الورد" وحنيني اليها يركض امامي ، التقط انفاسي

واسرع الخطى حتى لا يسبقني ....لم اكن مصدقة ان عيني ستقع عليها  

من جديد ،يا الهي كيف هي ؟ هل ستشعر بتلك الطفلة الهادئة التي ما كان

يثير غضبها الا ان يعكر احداً مياه العين ، هل ستشعر بيدي حين ستغرف من

مائها ، واشرب ، اشرب حتى اروي ظمأ شوقي اليها ؟؟..

كلما اقتربت خطوة كلما عاد الزمن الى الخلف خطوات ..وها انا اصل اليها

فتاة صغيرة في العاشرة من العمر ، كما كنت حين فارقتها …          

نكبر ولا تكبر "عين الورد" نهرم نحن وتبقى هي عروسة الى الأبد ..            

وكأن المشهد حين فارقته منذ طفولتي توقف ، وعاد حين عدت اليها …

فها هم رفاق الطفولة ، يلعبون ويلهون ، ويتراكضون حول مائها واشجارها ..

بضحكاتهم التي كانت تزرع الارض والسماء ،نقاءاً وحياة مثل خرير مياهها

الذي لا يهدأ ولا يكل …  نساء على اكتافهن جرار الفخار يملأنها من مياه العين

البكر ..صبايا وشبان اتوا الى مواعيد الحب ليزرعوا مواسم الاعراس …  

فجأة توفق الزمن اللذي رجعت اليه توقفت تلك الذكريات على صراخ اطفال

يركضون بخوف !! نظرت امامي ، ويا لهول المشهد !!                            

انه "ابو حجر " ذلك الانسان الذي كان مصدر رعبنا الدائم ،كان ينحني الى الارض

ويلتقط حجراً يرشق به الاولاد الهاربين امامه بأقصى سرعتهم …              

    اتذكر حين فارقت هذا المكان منذ سنين طويلة ، كان آخر مشهد رأيته هو انحناءة

"ابو حجر" لألتقاط حجر يرميني به وانا اعدو امامه هاربة بكل قوتي ولكنه استطاع

اصابتي بجرح في قدمي مازال اثره حتى الان .. واول مشهد رأيته بعد كل هذا الغياب

وكأن الحياة ارادت ان تخبرني بأن الزمن هنا توقف ، وهنا عاد ..وان السنين التي

مرت لم تكن سوى سراب ..                                                            

كم هو مذهل ان تتكرر اللحظات ، وتجدد نفسها رغم انف السنين ..كم هو مذهل

هذا الفراغ بين الوقت …وما يذهلنا اكثر عدم قناعتنا بكل ما نمر به وما نجنيه ..

لماذا "ابو حجر" ؟ اسميناه ابو حجر لأن حجارته كانت لغته الوحيدة مع البشر

لم نعرف له اسماً ولم نسمع له صوتاً ، كان صبياً فتى يتيماً ، عنده تشويه خلقي في

في وجهه واذنيه وانحناءة في كتفيه …                                                  

مكانه الوحيد كان العين ، لا يفارقها في كل تقلبات الفصول ، وفي الليل يعود الى مسكنه

في زاوية بيت قديم مهجور نصفه مهدم …                                                  

اعاقته جعلته عدائياً وحاقداً على الناس وخاصة الصغار ، بسبب نظرتهم الساخرة له

ما يكاد يمر احداً بجانبه وينظر اليه ، نظرة غير عادية حتى يعاجله بضربة حجر ..

كان شديد الفراسة بقراءة نظرات الناس وعلى اساسها ينتقم .. وكم كان بارعاً في الرشق

يصيب الولد الذي يريده من بين كل الاولاد …                                              

الحجر سلاحه الفتاك الوحيد ،دائماً جاهزاً ومستنفراً لكل حواسه للدفاع عن كرامته

بطريقته الخاصة …                                                                        

نظرت اليه ولأول مرة دون خوف ، ويبدو انه فهم نظرتي الحنونة فلم يبادر لضربي

رأيت بقايا انسان عجوز ، واهي القوى ، رث الثياب ، يرسم العذاب خطوطاً مريعة

على وجهه ، هالات سوداء واسعة تحت عينين غائرتين تفيضان حزناً وعلامات استفهام ..

الاّن فقط فهمت سبب قسوتك يا ابو حجر !! الان عرفت معنى "حجرك" !!  

كنت تريد مخاطبة قلوب متحجرة بنفس لغتها ، فربما فهمت عليك …

ولكن هيهات ان يشعر الحجر …كم كان ألمك شديداً حين كانوا يرمون لك

بقايا طعامهم ، وكأنك كلب جرب ..الان فهمت كم كانت تمزقك سخرية نظراتهم

 لم يكن حقدك على الاطفال ،كان على الطفولة التي لم تعرف طريقها اليك …

أما وجد من يأخذ من يدك الحجر ، ويضع مكانه قلماً ..؟.                    

يا وطن اللاانسان ، الحرب لم تنتهي ، الحرب قائمة طالما يوجد مثل إنسان

ينوء تحت حطام القيم والاخلاق التي انهارت في زمن موت الضمير …      

الحرب تنتظر على ارصفة الظلم التي تمر بها جنازة الانسانية نحو وطن

جعلوه مقبرة لجثث تتحرك حسب هواء مطامعها …                        

                         حنان رحيمي  (جنى المطر)


 بعد غربة طويلة حملت في طياتها الصفراء ، عمراً امتد من الطفولة

الى الكهولة ..رمتني في احضانها الباردة بشاعة الحرب الاهلية ، والطائفية

البغيضة ، التي عصفت بوطن المحبة والنور ، فأحرقته ، وقتلت شعبه

وشردت الباقي ….                                                        

عدت بعد رحلة طويلة من التسكع على دروب غريبة ، وجدت فيها كل

ما احلم به ، ولكنني لم اجد وطناً …                                      

لذلك قررت العودة والسجود في محرابه فربما غفر لي بعدي عنه

كل هذا الزمن …                                                        

في هذه المرحلة من العمر ، وبعد كل هذا الشقاء ، لا يبقى للانسان الا

ذكرياته ، وكان اكثر ما يشدني هو ذكريات الطفولة ، ورفاق المدرسة

والساحات التي كانت جنة فرحنا ومأوى برائتنا ….                      

ذلك الجزء الصغير من مرحلة الحياة لا يُنسى ولا تمحوه الايام ..    

كان حنيني لمرتع الطفولة يقلق ذاكرتي ،فلم يهدأ يوما ،ولم ينم قط ، يأخذني

كل يوم الى ذلك المكان الذي يسمى "عين الورد" تلك العين الصافية التي

تفيض عذوبة وجمال ، حيث كانت مزهوة بنفسها وكأنها اّلهة في وسط غابة

من شجر الصفصاف والحور والبيلسان …                                  

في هذا الفردوس قضيت طفولتي قبل ان يسرق جحيم البلاد البعيدة زهرة

العمر …                                                                      

سرت بأتجاه "عين الورد" وحنيني اليها يركض امامي ، التقط انفاسي

واسرع الخطى حتى لا يسبقني ....لم اكن مصدقة ان عيني ستقع عليها  

من جديد ،يا الهي كيف هي ؟ هل ستشعر بتلك الطفلة الهادئة التي ما كان

يثير غضبها الا ان يعكر احداً مياه العين ، هل ستشعر بيدي حين ستغرف من

مائها ، واشرب ، اشرب حتى اروي ظمأ شوقي اليها ؟؟..

كلما اقتربت خطوة كلما عاد الزمن الى الخلف خطوات ..وها انا اصل اليها

فتاة صغيرة في العاشرة من العمر ، كما كنت حين فارقتها …          

نكبر ولا تكبر "عين الورد" نهرم نحن وتبقى هي عروسة الى الأبد ..            

وكأن المشهد حين فارقته منذ طفولتي توقف ، وعاد حين عدت اليها …

فها هم رفاق الطفولة ، يلعبون ويلهون ، ويتراكضون حول مائها واشجارها ..

بضحكاتهم التي كانت تزرع الارض والسماء ،نقاءاً وحياة مثل خرير مياهها

الذي لا يهدأ ولا يكل …  نساء على اكتافهن جرار الفخار يملأنها من مياه العين

البكر ..صبايا وشبان اتوا الى مواعيد الحب ليزرعوا مواسم الاعراس …  

فجأة توفق الزمن اللذي رجعت اليه توقفت تلك الذكريات على صراخ اطفال

يركضون بخوف !! نظرت امامي ، ويا لهول المشهد !!                            

انه "ابو حجر " ذلك الانسان الذي كان مصدر رعبنا الدائم ،كان ينحني الى الارض

ويلتقط حجراً يرشق به الاولاد الهاربين امامه بأقصى سرعتهم …              

    اتذكر حين فارقت هذا المكان منذ سنين طويلة ، كان آخر مشهد رأيته هو انحناءة

"ابو حجر" لألتقاط حجر يرميني به وانا اعدو امامه هاربة بكل قوتي ولكنه استطاع

اصابتي بجرح في قدمي مازال اثره حتى الان .. واول مشهد رأيته بعد كل هذا الغياب

وكأن الحياة ارادت ان تخبرني بأن الزمن هنا توقف ، وهنا عاد ..وان السنين التي

مرت لم تكن سوى سراب ..                                                            

كم هو مذهل ان تتكرر اللحظات ، وتجدد نفسها رغم انف السنين ..كم هو مذهل

هذا الفراغ بين الوقت …وما يذهلنا اكثر عدم قناعتنا بكل ما نمر به وما نجنيه ..

لماذا "ابو حجر" ؟ اسميناه ابو حجر لأن حجارته كانت لغته الوحيدة مع البشر

لم نعرف له اسماً ولم نسمع له صوتاً ، كان صبياً فتى يتيماً ، عنده تشويه خلقي في

في وجهه واذنيه وانحناءة في كتفيه …                                                  

مكانه الوحيد كان العين ، لا يفارقها في كل تقلبات الفصول ، وفي الليل يعود الى مسكنه

في زاوية بيت قديم مهجور نصفه مهدم …                                                  

اعاقته جعلته عدائياً وحاقداً على الناس وخاصة الصغار ، بسبب نظرتهم الساخرة له

ما يكاد يمر احداً بجانبه وينظر اليه ، نظرة غير عادية حتى يعاجله بضربة حجر ..

كان شديد الفراسة بقراءة نظرات الناس وعلى اساسها ينتقم .. وكم كان بارعاً في الرشق

يصيب الولد الذي يريده من بين كل الاولاد …                                              

الحجر سلاحه الفتاك الوحيد ،دائماً جاهزاً ومستنفراً لكل حواسه للدفاع عن كرامته

بطريقته الخاصة …                                                                        

نظرت اليه ولأول مرة دون خوف ، ويبدو انه فهم نظرتي الحنونة فلم يبادر لضربي

رأيت بقايا انسان عجوز ، واهي القوى ، رث الثياب ، يرسم العذاب خطوطاً مريعة

على وجهه ، هالات سوداء واسعة تحت عينين غائرتين تفيضان حزناً وعلامات استفهام ..

الاّن فقط فهمت سبب قسوتك يا ابو حجر !! الان عرفت معنى "حجرك" !!  

كنت تريد مخاطبة قلوب متحجرة بنفس لغتها ، فربما فهمت عليك …

ولكن هيهات ان يشعر الحجر …كم كان ألمك شديداً حين كانوا يرمون لك

بقايا طعامهم ، وكأنك كلب جرب ..الان فهمت كم كانت تمزقك سخرية نظراتهم

 لم يكن حقدك على الاطفال ،كان على الطفولة التي لم تعرف طريقها اليك …

أما وجد من يأخذ من يدك الحجر ، ويضع مكانه قلماً ..؟.                    

يا وطن اللاانسان ، الحرب لم تنتهي ، الحرب قائمة طالما يوجد مثل إنسان

ينوء تحت حطام القيم والاخلاق التي انهارت في زمن موت الضمير …      

الحرب تنتظر على ارصفة الظلم التي تمر بها جنازة الانسانية نحو وطن

جعلوه مقبرة لجثث تتحرك حسب هواء مطامعها …                        

                         حنان رحيمي  (جنى المطر)


السابق
الأردن في مواجهة العواصف
التالي
مفهوم الوطنية وفقه المواطَنة لدى الإسلام السياسي