لبنانان بين برّي والسنيورة

اليوم، يعرض البعض على شيعة لبنان خيار الاندماج في واقع له صلة بالمشروع الغربي في بلادنا. ينطلق هؤلاء، ومنهم السياسي والمثقف والمتفكّر أيضاً، من أن الحاصل في سوريا سينتهي إلى ما انتهت إليه الأمور في شمال أفريقيا، وأن شيعة لبنان سيصابون بالضرر إن لم يبادروا إلى خطوة تبعدهم عن سوريا وإيران.
هكذا يتحدث سمير جعجع، وهكذا يفعل سعد الحريري ووليد جنبلاط، وهكذا يكتب مثقف الليبراليين اللبنانيين حازم صاغية. وللمصادفة، هذه هي أيضاً نصيحة أمير «القاعدة» في بلاد الشام ماجد الماجد قبل بضعة أيام. لكن الخيط الواصل بين هؤلاء جميعاً، هو الاعتقاد بأن الوقت لن يطول حتى تنهار جبهة سوريا وإيران، ومعها حكم العراق الجديد، وتالياً حزب الله ومعه الثنائية الشيعية النافذة. علماً بأن هؤلاء يتناسون أنهم فعلوا الأمر نفسه يوم جاء رفيق الحريري إلى لبنان بالتزامن مع انطلاق مفاوضات التسوية الأميركية عام 1992. لكنهم فوجئوا بأن الأمر يسير بخلاف توقعاتهم. ثم عادوا عشية عام 2000 إلى مطالبة المقاومة بوقف ملاحقة جنود الاحتلال في الجنوب؛ لأن إسرائيل قررت الانسحاب. ثم طالبوها في أيار عام 2000 بإلقاء السلاح؛ لأن التحرير أُنجز: «طيب يا أخي، هلكتونا. ها قد فزتم على إسرائيل، لكم منا التحية، لكن رجاء، عودوا إلى منازلكم»! لتعود الروح إلى هذه الجماعة بعد أحداث 11 أيلول، واعتقادهم بأن الحرب الأميركية العالمية على الإرهاب ستجرف هؤلاء، وعسى أن يستوعبوا الأمر مسبقاً، فيرتاحو ويريحوا!
لا يقرر أصحاب هذه الوجهة الراحة أو التعقل؛ فتراهم بعد غزو العراق يعيدون الكرّة، ويفترضون هذه المرة أن صعود الشيعية السياسية في العراق سيكون الإغراء الأفضل؛ لأن مرجعية النجف ستحطّ من قدر مرجعية قم. وبالتالي فإن الهوية العربية للشيعة مع العراق الجديد، ستجعلهم يشبهون بقية العرب المندمجين في الثقافة الأميركية. وبالتالي، سيجري عزل من يتمرد، إلا إذا قبلت المقاومة في لبنان الواقع واستسلمت أو سلمت. ثم نعود إلى المشهد ذاته، مع درجة أعلى من السخونة.
عام 2006 كانت إسرائيل تشنّ الحرب الأكثر فظاعة، وكان هؤلاء شركاء فيها، من التحريض إلى الدعم المباشر السياسي وغير السياسي، وهم لم يوفّروا حتى أنصارهم من «الشيعة الأحرار» من أداء هذا الدور القذر (آه من مفاجآت ويكيليكس الجديدة عن شيعة أميركا في بلاد الأرز). وقبل أن يعود المنتصرون من أهل الجنوب إلى منازلهم، كان أصحاب هذا المنطق يجتمعون ويقررون أن المقاومة أثبتت أنها عبء وجب التخلص منه!
اليوم، يكرر الغباء نفسه، ونعود للأغنية ذاتها، وللاعتقاد بأن ما يجري في سوريا إنما هو واصل حتماً إلى جعل المقاومة في لبنان قاب قوسين أو أدنى من الموت قتلاً أو انتحاراً. وقرر العطوفون من هؤلاء منحها فرصة النجاة!

■ ■ ■

في سياق هذا العالم الافتراضي، وجبت المقارنة بين شخصيتين تمثلان واقعاً حقيقياً كبيراً في لبنان، وهي مقارنة تتيح فهم تحولات عميقة تحصل في منطقتنا، مثل السعي إلى نفي صفة العدو عن إسرائيل، إلا في البيانات، وتصبح المشكلة مع آخرين من أبناء الجلدة نفسها، وسط غليان غير مسبوق على خلفية النزاع المفترض سنياً ــــ شيعياً.
المقارنة هي بين نبيه بري وفؤاد السنيورة!
يختلف نبيه بري عن أترابه من سياسيي لبنان ما بعد الحرب الأهلية، بقدرته الفائقة على المحاكاة السياسية. يجيد تظهير الموقف الأصلي لجماعته ــــ وهي هنا، وحتى إشعار آخر، تعني عموم شيعة لبنان ــــ من المسألة اللبنانية. ويجيد تظهير علاقة هذه الطائفة بهذه الدولة. وآخر سحره قال بري: «إننا شيعيو الهوية سنيو الهوى لبنانيو الحمى والمنتهى».
في ترجمة بسيطة، بري يخاطب السنّة الثائرين في بلاد ما بين النهرين، أو الخائفين في الجزيرة العربية، أو الحالمين بتبدّلات على وقع تغييرات شمال أفريقيا. يقول بري لهؤلاء: أنتم أصحاب الأرض والدار. والهوى المسيطر على عالمنا هو هواهكم، ومن يلعب دوراً تعتقدون أنه أكبر من حجمه، فاعلموا أنه دور الباحث عن استقرار في هذه المملكة. لكن بري ينطق بما قاله، وهو يمثّل في هذه اللحظة، محلياً وعربياً، موقع المتقدم في المعركة المفترض أنها الأبرز عند العرب، وهواهم سني، في مواجهة إسرائيل. كما يمثل، إقليمياً، موقع المواجهة الأعنف مع الولايات المتحدة والغرب الرافض لأي استقلال عن سلطته القاهرة. وهو يمثل، الآن، الطرف القادر على التقدم صوب تسوية عادلة، لا هيمنة فيها ولا التحاق.
بري هنا، يستعير أدبيّات لبنانية سبق أن قيلت في سياق خاطئ، وكانت نتائجها خاطئة. مثلما فعل شارل مالك وفؤاد بطرس وغسان تويني عندما قدموا أوراق الاعتماد للمارونية السياسية، وحظي كل منهم بموقع الممثل للطائفة المستشارة عند الطائفة الحاكمة.
لكن المشكلة في استعارات فؤاد السنيورة!
السنيورة الذي ينطق اليوم باسم غالبية سنية لبنانية، لها انتماء متصل بسنة أهل الشام والجزيرة وبعض أفريقيا، هو الساعي إلى انتزاع دور بقوة الآخرين لا بقوته أو بجهده. هو يكرر في هذه اللحظة خطأ تموز عام 2006، فيقوم رهانه (رهان من يمثل) على سقوط الناظم في سوريا، وتعرض «سلسلة الشر الممتدة من طرف في إيران إلى طرف في غزة» لضربة في وسطها، أملاً في تعزيز انسحاب أهل فلسطين من هذا المحور، وتراجع العراق نحو موجة جديدة من الحرب الأهلية تسقط الحكم القائم فيه، فتحاصر إيران في بيتها، وتعزل المقاومة في لبنان. وهو ليس في موقع القابل لأي نصيحة أو مراجعة، وجل ما يفعله هو التسليم بخطاب الجبهة اللبنانية، ويقبل قيادة عملانية لسمير جعجع على كل فريق 14 آذار. ليس بالمال يجري الأمر، بل بالفكرة والآلية وحتى الخطاب. وها هو السنيورة، يكرر خطأ «أرثوذكس ميثاق الـ43»، بأن يقبل دور الناطق باسم فكرهم السياسي. فيحمل خطاباً مات ريمون إدة قبل تحوله إلى واقع. يعود السنيورة، ومن يمثل، إلى لعبة عميد الحياد، بطلب «نشر البوليس الدولي حول كل لبنان، من جنوبه إلى شرقه وشماله». كانت هذه وصفة ريمون إدة المضادة لوصفة اليسار الداعم للثورة الفلسطينية، وكانت بالنسبة إليه كابحاً لجماح الجبهة اللبنانية الساعية إلى علاقة مباشرة مع إسرائيل.
فؤاد السنيورة يريد اليوم نشر قوات اليونيفيل على طول الحدود الشرقية والشمالية للبنان مع سوريا. وفي لحظة غباء، يمكن المرء أن يعتقد أن الناطق باسم تيار «المستقبل» إنما يطلب ذلك لكي يمنع تهريب الأسلحة والمسلحين إلى المعارضة السورية المقاتلة. لكن العاقل يعرف أن هذا الطلب، مثل طلب طرد السفير السوري والحملة على وزير الخارجية عدنان منصور عشية تسلمه مهمة رئاسة مجلس وزراء خارجية الجامعة العربية، إنما له سياق واحد، هو سياق متصل بتطورات جارية في لبنان نفسه، وعلى الحدود مع سوريا. وهو يعني هذه المرة ما كان قد عناه عند إقرار 1701، لناحية جعل الخطوة وسيلة جديدة في الضغط على المقاومة.
قد يقول قائل إنه لا جديد في الأمر لناحية أن موقف السنيورة ومن يمثله واضح في هذا السياق. لكن الجديد الذي يستدعي الخشية والخوف، هو أن ما يقوم به السنيورة ومن يمثل اليوم في لبنان، لا علاقة له بأهل الدار، بل بزوار أو لاجئين مثل حال الأقليات في لبنان!

السابق
من مرسي وأردوغان إلى صلاح الدين الأيوبي
التالي
عبدالله السنوسي في القبضة الليبية