الكنيسة للأغنياء فقط أم للفقراء أيضاً ؟

  اتخذ بطريرك انطاكية وسائر المشرق للموارنة بشارة الراعي، في افتتاح المؤتمر السنوي التاسع عشر للمدارس الكاثوليكية في لبنان امس، سلسلة مواقف اختلط فيها السياسي بالاقتصادي، بالاجتماعي، بالتربوي انطلاقاً من المطالب التي رفعها الاساتذة في لبنان منذ اشهر والذين تظاهروا اكثر من مرة من أجل تحقيقها. ونظراً الى اهمية هذه المواقف رأيت من واجبي التعليق على بعضها الأكثر اهمية بل الأكثر دلالة حرصاً مني اولاً على مقام البطريركية وشاغل سدتها، وثانياً على حقوق المواطنين، وخصوصاً محدودي الدخل والفقراء كما الطبقة الوسطى التي تحولت الى ما دون الوسطى في العقود الاربعة الاخيرة، ليس فقط بسبب الحروب الاهلية والانتفاضات والثورات الشعبية والشعبوية، بل أيضاً بسبب غياب الدولة بكل مؤسساتها وغياب المحاسبة واستشراء الفساد والاستقواء بالقوي اللبناني او غير اللبناني على الضعيف وبالغني على الفقير. أفليست الكنيسة عند المسيحيين للفقراء والمعوزين بل للعدالة الاجتماعية؟

طالب غبطته في خطابه الافتتاحي بـ"نشر العدالة الاجتماعية بين العائلة التربوية من دون فرض ضرائب جديدة واستدانات". لكنه لم يُشِر الى الطريقة التي تحقق العدالة المذكورة. علماً ان دول العالم الاول التي نحاول دائماً التشبُّه بها، ليس في تطبيق القوانين وتأمين الخدمات للناس (طبابة، تعليم، طرق، وسائل اتصال، سكن، تعويضات بطالة، توفير فرص عمل…)، علماً ان هذه الدول تعتمد على الضرائب المباشرة أولاً والتصاعدية ثانياً، كما على الضرائب غير المباشرة لتوفير كل ما يحتاج اليه مواطنوها. واللبنانيون وخصوصاً الذين منهم يعرفون العالم الاول، وكل عالم ثان وثالث ورابع، يعترفون بهذا الواقع، لكنهم وبنفسيتهم المركنتيلية يأخذون منافع هذه الدول ثم ينتقدون انظمتها الضرائبية لأنهم من جماعة الربح فقط، أي من جماعة احترام الحق (حقهم) واهمال الواجب (واجبهم) بل تجاهله والتهرّب منه. ولهذا السبب يحب اللبنانيون العمل بل جني الثروات من البلاد التي تشبه بلدانهم من حيث الفساد وغياب الدولة، واستغلال الفقر المتفشي عند شعوبها ومرافقها العامة والخاصة، مخالفين بذلك كل القوانين الوضعية والدينية بالتواطؤ طبعاً مع اصحاب الحل والربط فيها. وهم يعرفون ان لبنان لا يستطيع تمويل أي شيء إذا لم يستدن أو إذا لم يَفرض ضرائب. ودعا غبطته ايضاً الى "الغاء المفعول الرجعي للزيادات، والى الغاء فرض ضرائب على المدارس الخاصة". والسؤال هو لماذا؟ ألا تجني هذه المدارس ارباحاً في مقابل تعليمها الجيد الذي لا ينكره احد؟ ولماذا دخل المرجع المسيحي الاول في لبنان بل في الشرق في امور يفترض ان يتولاها موظفون وساسة وخبراء؟ ولا يعني ذلك منعه من اعطاء رأيه، لكن رأيه يجب ان يكون توجيهياً وشاملاً وليس غارقاً في التفاصيل.

وقال غبطته ثالثاً: "لا يحق للسلطة اتخاذ قرارات وسن قوانين بالرضوخ لضغوط اجتماعية ومن اجل حسابات سياسية". ألا يعرف غبطته المثل الشعبي القديم قِدَم الانسان: الطفل الذي لا يصرخ او يبكي لا تطعمه او لا ترضعه امه؟ ألا يعرف ان الضغوط الاجتماعية (تظاهرات) للمطالبة بتحسين ظروف او بمواقف محقة هي عمل ديموقراطي تكفله الدول "الحقيقية"؟ أما الحسابات السياسية فموجودة في كل الدول. لكن في لبنان، ومن يشابهه منها، فإنها ليست سياسة بل كيد وعداء وحقد ومصالح خاصة او فئوية او طائفية او مذهبية. وغالباً ما يستعملها اصحابها ضد مصلحة بلادهم ومواطنيهم. لكن هذا لا يعطي احداً الحق بالغاء المحرك الاجتماعي الديموقراطي.

ودعا اخيراً الى "تجنب الزيادات العشوائية ومفعولها الرجعي". فهل يعتبر زيادات غلاء المعيشة الاخيرة بعد سنوات من الامتناع عن منحها للناس عشوائية وكبيرة؟ هل يعني انه يتبنى منطق ارباب العمل ويتجاهل مطالب العمال؟ هل يعتبر نفسه رب عمل المدارس الكاثوليكية؟ ام انه مرجعها ومرجع كل مظلوم في لبنان مسيحياً ومسلماً، فقيراً وغنياً، عاملاً وصاحب عمل؟

في النهاية لا يعني هذا الكلام ان الجسم التعليمي طاهر كله وكفوء كله، ولا يعني ان اصحاب المدارس ظالمون كلهم، لكن ذلك لا يبرر الإحجام عن محاولة ترتيب اوضاع شاذة بأقل كلفة ممكنة تلافياً لحصول ما يرفضه البطريرك ونرفضه معه وهو استغلال المآسي الاجتماعية للقضاء على لبنان الرسالة. وسياسيو لبنان ورجال دينه بنسبة مهمة منهم يتحدثون عن هذا اللبنان لكنهم يعملون ضده بوعي او من دون وعي.

بالمناسبة، أذكّر غبطته أنني لست يسارياً ولم أكن، مع الإحترام لليساريين. 

السابق
باسيل: اليوم انتصر منطق الدولة والمؤسسات
التالي
هل خذلت إيران وحزب الله الأسد؟