أفـول نجم معـاريف

توقفت صحيفة «معاريف» ابتداء من يوم أمس عن توزيع طبعتها الورقية، وأعلنت أنها تكتفي من الآن فصاعدا بنشرتها الالكترونية على أن تطبع وتوزع فقط في أيام الجمعة.
ويشكل هذا الإعلان نوعا من إشهار إفلاس الصحيفة التي كثيرا ما تنافست على المكانة الأولى بين الصحف الصادرة باللغة العبرية في إسرائيل، وخصوصا مع صحيفة «يديعوت أحرونوت».
ولم يكن خافيا على أحد حجم العثرات المالية التي أصابت الصحيفة في السنوات الأخيرة وارتباط عثرتها الأخيرة بعثرة أحد أكبر المساهمين بها وهي شركة «آي دي بي» التي تم الإعلان عنها مؤخرا «مؤسسة حية»، بما يعني أنها على وشك الإفلاس.

عموما كانت «معاريف» أول الصحف الورقية الإسرائيلية الواسعة الانتشار التي تتوقف رغم أنها نشأت مع ولادة الدولة العبرية في العام 1948. وتدهور وضع الصحيفة في العامين الأخيرين تدهورا واسعا عرّض للخطر حوالي ألفي مستخدم فيها بين صحافي وإداري وعامل.
وبحسب آخر المعطيات فإن الصحيفة حققت في الربع الثاني من هذا العام خسائر قدرت بـ61 مليون دولار في حين كانت خسائرها في الربع الأول من العام الجاري حوالي تسعة ملايين دولار. وتقدر خسائر الصحيفة في الأعوام الخمسة الأخيرة أكثر من 130 مليون دولار.

ومن البديهي الإشارة إلى أن ما تعانيه صحيفة «معاريف» تعانيه، وإن بأشكال أقل الصحف الإسرائيلية الكبيرة الأخرى وبينها «يديعوت أحرونوت» و«هآرتس». وكانت القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي قد عانت مؤخرا من مصاعب اقتصادية أوصلتها مرارا إلى حافة إشهار الإفلاس. غير أن المشكلة الأساسية تتمثل أساسا في الصحافة الورقية التي باتت تعاني، ليس في إسرائيل وحدها بل في العالم أجمع، من عثرات اقتصادية، إذ قليلة هي الصحف التي تحقق مكاسب مالية في العالم بأسره.
وكانت دراسة نشرت في الولايات المتحدة قبل شهرين قد توقعت أنه خلال بضع سنوات لن تبقى في الولايات المتحدة كلها أكثر من خمس صحف يومية. وتنذر هذه الدراسة بأن هذا هو حال الصحافة الورقية في العالم والتي تواجه المشكلة الأعظم في تاريخها وهي ابتعاد الشباب ليس فقط عن القراءة الورقية بل حتى عن سماع الراديو ومشاهدة التلفزيون بل عن القراءة الإلكترونية الدؤوبة. وهذا يفسر في نظر المختصين سرعة تهاوي الكثير من مواقع الانترنت الإخبارية التي حاولت القيام بدور الصحافة الجديدة.
غير أن السبب الرئيس وراء انهيار الصحافة الورقية يعود في الأساس إلى تراجع حصتها من الكعكة الإعلانية، فالإعلانات تشكل في أغلب الصحف في العالم ما بين 60-80 في المئة من العائدات التي تغطي تكاليف إنتاج الصحف وإدارتها وتوزيعها. وهذا يعني أن القارئ كف منذ زمن بعيد عن أن يكون رب العمل الرئيس للصحف إلا بمقدار ما هو موضع استهداف المعلن. وهذا يجعل التوزيع في الأساس نوعا من الوسيلة لنشر الإعلانات في الصحافة المستقلة، ويجعل الإعلان أوسع بقدر ما تكون الصحيفة أكثر توزيعا وانتشارا.

وهكذا تنشأ المفارقة القاتلة: كلما تقلصت القراءة وتدنى التوزيع كلما تراجعت كمية الإعلانات وقيمتها وانفتح الباب أمام العثرات الاقتصادية. وهكذا فإنه في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية التي تجد انعكاسات لها في أزمات محلية تزداد أزمة وسائل الإعلام عموما والصحافة الورقية على وجه الخصوص.
وربما أن هذا فتح الباب في الغرب عموما للصحافة المجانية. وفي السنوات الأخيرة أنشئت في إسرائيل صحيفة «إسرائيل اليوم» كصحيفة مجانية ونجحت خلال سنوات قليلة في احتلال المركز الأول في التوزيع متفوقة حتى على «يديعوت أحرونوت». ويعتقد كثيرون في إسرائيل أن نشوء هذه الصحيفة المجانية أسهم كثيرا في تدني انتشار الصحف الكبرى في الدولة العبرية. وخسرت «يديعوت» مثلا ثلث قرائها، فيما خسرت «معاريف» حوالي نصف القراء.

ورأى البعض في الصراع بين الصحف صراعا بين حيتان رأس المال في إسرائيل ويهود العالم، فصحيفة «إسرائيل اليوم» المجانية يمولها الملياردير اليهودي الأميركي شلدون أدلسون. ومعروف أن أربع عائلات تهيمن على ملكية غالبية وسائل الإعلام في إسرائيل، بحيث غدت كل واحدة من هذه العائلات تقريبا صاحبة إمبراطورية إعلامية لا تقف عند حدود الصحف المطبوعة بل تتخطاها إلى التلفزيون والإذاعة والانترنت.
وهكذا تنقلت ملكية «معاريف» لتصل في النهاية إلى عائلة دنكنر طبعا إلى جانب عائلة نمرودي التي لا تزال تحتفظ بدور في الإدارة. أما «هآرتس» التي كانت مملوكة بالكامل لعائلة شوكين، فباتت موزعة الأسهم بين شركات بعضها ألماني وروسي فضلا عن مساهمين محليين. وكانت عائلة «موزيس» تملك «يديعوت أحرونوت» لكنها وجدت في عائلة عوفر شريكا مناسبا.

وكتب المعلق السياسي في «هآرتس» آري شافيت أن «قوتين كبيرتين مكّنتا الصحافي من أداء عمل مقبول وهما: الاعلام الخاص والاذاعة العامة. وكان الاعلام الخاص قادرا على إقامة أوَد الصحافي لأنه استمد من مدفوعات جباها من مستهلكين وأصحاب إعلان، ومكّنت الاذاعة العامة الصحافي من العمل لأنها أنشأت حاجزا ما بين السلطة ومُستعرضي أحوال السلطة ومنتقدي السلطة الذين أنفقت السلطة عليهم. وأنشأت السوق الحرة من جهة والدولة السليمة من جهة اخرى بيئة اقتصادية معقولة للعمل الصحافي المهني النزيه.
لكن هاتين القوتين تنهاران في القرن الحادي والعشرين، لأن البنية الأعمالية للاعلام الخاص تنهار (الانترنت وانخفاض الاعلان وتغيير عادات القراءة والمشاهدة)، ولم تعد الرأسمالية تستطيع ان تنفق على صحافة تستحق هذا الاسم، لأن السياسة الفظة تسيطر مرة اخرى على الدولة والحاجز الذي كان موجودا بين السلطة ومستعرضي أحوالها ومنتقديها أخذ يختفي، وتتلاشى البيئة الاقتصادية التي مكّنت من وجود صحافة حرة في الماضي».
  

السابق
حان دور الاسد في العملية التفجيرية القادمة
التالي
ما سبب حزن رونالدو؟