من يطمئن الشعـوب اللبنانيـة الخائفـة والمخيفـة؟

يستعد لبنان لاستقبال قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر يوم الجمعة في الرابع عشر من أيلول الجاري، تحت عنوان «طمأنة المسيحيين على مستقبلهم في لبنان خصوصاً وفي الشرق عموماً».
هي زيارة تاريخية مهمة بطبيعة الحال، وشرف للبنان، بكل «شعوبه» أن يحظى بزيارتين متواليتين، خلال جيل واحد، لاثنين من أصحاب القداسة البابوات…
وليس غريباً أن يشغل لبنان، ولو عبر المسيحيين فيه، بال الكنيسة، ومنطقته جميعاً تعيش في قلب الاضطراب المنذر بحروب أهلية مفتوحة التي قد يكون عنوانها في هذه اللحظة سوريا، لكن احتمالات تمددها إلى الجوار السوري، جنوباً وشرقاً وغرباً (وشمالاً؟) مفتوحة… فنار الاقتتال الأهلي ذي الجذور الدينية أو الطائفية يصعب حصرها، لا سيما أن المنطقة جميعاً تستعيد تاريخاً دموياً حافلاً، أسهم في صياغته «المستعمرون»، حين تحكّموا باستيلاد «الدول» بما يناسب مصالحهم… وهكذا استنبتوا دولاً من العدم، وقسموا الأرض الواحدة دولاً شتى، مختصمة في أغلب الأحيان، واستخدموا الطوائف والمذاهب والعناصر والخوف من اقتتالها كمبررات لهذا التقسيم الذي يخدم مصالحهم.

ومع التقدير لهذا الاهتمام الاستثنائي ولهذا الشرف العظيم والرعاية المباشرة التي يبديها البابا لشؤون لبنان، والمسيحيين في الشرق استطراداً، فإن السؤال الذي يفرض نفسه: هل الوضع في لبنان مقلق إلى هذا الحد؟! وهل أوضاع المسيحيين في الشرق تخيف الفاتيكان؟
الجواب الفوري والبسيط هو: نعم. إن «الشعوب اللبنانية» جميعاً تعيش في قلب الخوف!
«الشعــوب اللبنانية» تخــاف بعضها بعضاً، وتخــاف المحيط القريب، إضافة إلى خوفها الدائــم من العــدو الإسرائيلي، والبعــض يخـــاف مــن «المقاومة» التــي سبق لها أن واجهت هذا العــدو فأجــلته عــما كان يحتــله من أرض لبنان، ثم منعــته من الانتصار بالقضـاء عليهــا في حـرب تمــوز من العام 2006.

الحدث السوري ومفاعيله ..
… ولقد استولدت الأحداث السورية المفجعة التي تقارب حافة الحرب الأهلية، مزيداً من المخاوف في لبنان وعلى لبنان، خصوصاً أن بين نتائجها المباشرة تزايد حدة الانقسام الطوائفي وتوزع اللبنانيين في مواقفهم وعواطفهم بين مؤيد للنظام مهما تعاظمت ارتكاباته، ومؤيد للمعارضات التي لا تعرف لها هوية واحدة ولا تجتمع على مشروع سياسي واحد وتتنافس على رعايتها ـ بالمال والسلاح ـ دول وقوى متعددة لم يعرف عنها عشقها للديموقراطية وإيمانها بحق الشعوب في تقرير مصيرها بإرادتها الحرة؟!
صار الخوف سمة وطنية عامة. الكل خائف، حتى ليمكن إدراج الخوف في خانة «العلامات الفارقة» المثبتة في بطاقة الهوية.
بالمقابل فإن الكل «مخيف» للآخر.
تتعدد مصادر الخوف (والتخويف) وتتفاقم تداعياته على حياة اللبنانيين الذين تتصاغر «دولتهم» أمام عيونهم وتفقد «هيبتها» ودورها في تأمين الناس على حياتهم وأرزاقهم. صارت الدولة «شيخ صلح» في أحسن الحالات. انقسمت مؤسساتها طوائفياً ومذهبياً حتى اندثرت صورتها الجامعة.
يهرب اللبنانيون من وطن الخوف إلى المهاجر. بعيدها والقريب. تشهد على تعاظم الهجرة معدلات الذين يتركون «الوطن» إلى أية دولة تستقبلهم. يبذلون ماء الوجه، وأحياناً بعض المال من أجل تأشيرة خروج إلى… الأمان.

كانتونات لكل تاريخها..
… وإذا ما اعتبرنا أن زيارة البابا تطمئن الطوائف المسيحية، فمن يطمئن الطوائف الإسلامية التي تعيش في قلب الخوف: كل طائفة خائفة من الأخرى ومخيفة لها في الوقت ذاته!
لقد عزل الخوف المناطق بعضها عن البعض الآخر. لم تعد بيروت مدينة واحدة، عاصمة لكل اللبنانيين. صارت «غيتوات». صار المالك يسأل عن طائفة من يريد شراء شقة في بنايته، أما المستأجر فيحتاج أكثر من وسيط إذا كان من طائفة أخرى.
تفاقم الانقسام الطوائفي. تمّ «تطهير» بعض ضواحي العاصمة من المختلفين طائفياً عن «أصحاب الأرض الأصليين»، ومن بقي يخضع ـ كأقلية ـ لأعراف الأكثرية. لم يعد مسموحاً لأي كان شراء بناية أو عقار ذي «هوية طائفية» مختلفة عن طائفة أصحاب الأرض. تجرأت البلديات على اتخاذ قرار بمنع تسجيل أية عملية عقارية لأي «وافد» من خارج الطائفة السائدة.
تشطّرت البلاد «كانتونات» طائفية ومذهبية تفصل بينها أسوار من المخاوف ولاّدة الكراهية والرغبة في الانفصال. بين الشمال والجنوب محيط من الأحقاد. ما عاد يعرف الجنوبيون الشمال، ولا يعرف الشماليون البقاع، ولا يعرف بعض الجبل بعضه الآخر… بل ربما يصح القول إن كل «مجموعة» لا تريد أن تعرف الآخرين. لم تعد المدارس الرسمية أو الخاصة تنظم رحلات للتلامذة لكي يتعرفوا إلى بلادهم بأنحائها المختلفة. استولت الطوائف على المدارس، وهربت الدولة من المواجهة تاركة الأطفال والفتية ينقسمون فتذهب كل مجموعة إلى مدارسها الطائفية الخاصة. تحكّم الطوائفيون بكتابة التاريخ، فصارت كل مجموعة من أطفال اللبنانيين تقرأ في كتاب ينسف رواية كتاب التاريخ الآخر المعتمد في مدارس الطائفة الأخرى.

.. وإذا ما اعتبرنا أن «الشعب السني» يعيش قلقاً مصيرياً مزدوج المصدر: بعضه يتصل بتدهور الأحوال في سوريا نحو الحرب الأهلية بشعار طائفي مموّه، وبعضه الآخر يتصل بسلاح المقاومة واحتمالات استخدامه في الداخل، تمثلاً بسابقة السابع من أيار 2008… فمن يطمئن «الشعب السني»؟!
وإذا ما اعتبرنا أن «الشعب الشيعي» يعيش قلقاً ممضاً على مصيره، وليس فقط على سلاح المقاومة.. لقد بات موضع هجوم يومي مركز، فهو المهيمن على السلطة، وهو الذي يملك سلاحاً خارج الشرعية ولا تقدر قوات الدولة على مواجهته، وهو منحاز إلى النظام السوري، وهو في فيء النظام الإيراني، وهو من يهدد سلامة لبنان لأنه عنصر استفزاز دائم لإسرائيل التي قد تحاول تدميره ذات يوم فتدمر لبنان!
ثم إن مقولة «الهلال الشيعي» التي أطلقها، ذات يوم، ملك الأردن الهاشمي نسباً والغربي ثقافة وتوجهاً، بات سياسة رسمية معتمدة في عدد من الدول العربية النفطية، لتعظيم خوفها من إيران وتسليم ثرواتها بالكامل لحماتها الأميركيين، ولا يهم أن يكون الإسرائيليون بين المستفيدين من هذه الحرب الطوائفية ذات الهدف السياسي (والاقتصادي) المعلن.
وإذا ما اعتبرنا أن ما يردده وليد جنبلاط بوتيرة شبه يومية هو تعبير عن هواجس مقلقة عند «الشعب الدرزي»، فمن يطمئن الدروز على مصيرهم، خصوصاً أنهم يرونه مرتبطاً إلى حد بعيد بالحرب الدموية المفتوحة في سوريا وعليها.
أما الذين حلموا ببناء «دولة مدنية» تقوم على المواطنة فهم خائفون من الجميع ولا أمان لهم في أية بقعة من أرض لبنان!

كل لبناني خائف من اللبناني الآخر، ومخيف للبناني الآخر.
كل طائفة خائفة ومخيفة،
والمواطن العادي خائف من الجميع.
كان الخوف ـ في الماضي ـ «اختصاصاً مسيحياً»، صار الخوف سمة لبنانية عامة: الخوف على سوريا والخوف من سوريا، الخوف على مصر من «إخوانها» والخوف من «السلفيين» على الجميع، الخوف من العراق وعلى العراق. الخوف على الفلسطينيين والخوف منهم بتعظيم أسطورة التوطين.
صار الخوف من إسرائيل ذكريات سالفة. من الماضي.
وها نحن ننتقل من نظام الطوائف إلى نظام العشائر… فمتى ارتد الناس إلى طوائفهم باعتبارها مرجعياتهم التي تحميهم وتؤمنهم على غدهم، كانت تلك ورقة نعي الدولة.
ترى هل تكفي زيارة قداسة البابا لطمأنة اللبنانيين في «دولتهم» المتهالكة، وطمأنة أهل هذا المشرق الذين يسكنون في خوف مقيم لا يغادرهم ولا يغادرونه؟!
  

السابق
سيرا: نسعى لتعزيز قدرات الجيش اللبناني
التالي
قانون منع التدخين في الأماكن العامة.. يبدأ من اليوم