في انتظار البابا وأمل السلام والحرية

سيطلق لبنان الدخان الأبيض يوم عيد ارتفاع الصليب المقدس في 14 أيلول المقبل وتقرع أجراس كنائسه إحتفاء بزيارة البابا بنديكتوس السادس عشر. بصرف النظر عن كل المؤثرات، يبدو الفاتيكان مصمّماً على زيارة قداسة البابا للبنان في وقت يخاف اللبنانيون من التنقّل داخل البلد الواحد من منطقة الى أخرى.

ستتم الزيارة وفقا للتصوّر الأولي الذي تمناه قداسة البابا واختار عنوانها بنفسه "سلامي أعطيكم" على شكل نداء. وقد اختار لبنان من بين كل دول المنطقة حيث أن البلد الصغير ينطق باسمها كلّها. فالزيارة "حدث استثنائي" كما وصفها الرئيس سعد الحريري، وهي الزيارة الثانية بعد مرور 15 عاما على الزيارة الاولى حينما زار البابا الطوباوي يوحنا بولس الثاني لبنان في العام 1997. إلا أن زيارة الخلف لا تقل أهمية عن زيارة السلف وخصوصا أن نظرة البابا الحالي الى لبنان هي ذاتها نظرة سلفه "لبنان اكثر من بلد.. إنه رسالة" وهي نظرة نشرها البابا يوحنا بولس الثاني. فزيارة اليوم مكمّلة لزيارة الأمس حين كان هدف الفاتيكان أن يعضد البابا مسيحيي لبنان الذين كانوا يعيشون حالة تشرذم تاريخية بعد الحرب الاهلية، وليطلق الارشاد الرسولي الخاص بلبنان.. أما اليوم فالهدف هو إطلاق إرشاد رسولي لكل مسيحيي الشرق.

وسط الظروف التي تمرّ بها المنطقة وتحديدا سوريا والتي انعكست على مختلف مناطق لبنان من الشمال الى بيروت، يمكن القول إن الزيارة تتخطى الواجب الرعوي لتتخذ بُعدا استثنائيا منها الرسالة الإنسانية والسياسيّة، والكنسيّة المسكونيّة، ومنها الثقافيّة والإجتماعيّة والأمنيّة، بالإضافة الى حوار الحضارات وتفاعلها مع بعضها البعض والحوار بين الأديان والطوائف. كما تشكل فرصة لقداسة البابا كي يوقع الإرشاد الرسولي المنبثق من المجمع الخاص لأساقفة منطقة الشرق الأوسط الذي عُقد في الفاتيكان خلال تشرين الأول 2010. ويشكل الإرشاد خريطة طريق لعمل الأساقفة الرعوي، ولمواجهة الاقتلاعات والعواصف والمتغيرات التي تهبّ على الشرق العربي وتجعله أمام مصير مقلق.

بدوره، أصرّ الفاتيكان على عدم إلغاء الزيارة وأرادها تاريخية وبادرة سلام تلبية للدعوة التي وجهها إليه رئيس الجمهورية ميشال سليمان في العام 2010. وشدّد الفاتيكان على ذلك في بيان قال فيه "هذه الزيارة تؤكد عمق العلاقات التاريخية التي تربط لبنان بالكرسي الرسولي، وستشكل مناسبة للتركيز على موقع لبنان ورسالته ودوره كشاهد للحرية والعيش المشترك". وتشدد الدوائر الفاتيكانية "على ان الكرسي الرسولي يدرك صعوبة الوضع في المنطقة ولبنان، لكن البابا يصر على القيام بهذه الزيارة وهو مدرك دقة الوضع في الشرق الاوسط والاخطار المحدقة بمختلف دول المنطقة. وهذا ان دل على شيء انما يدل على امرين: أولا شجاعة الحبر الاعظم في مواجهة اوضاع دولية صعبة وهذا امر يظهر للمرة الاولى عند بنديكتوس السادس عشر المعروف بخجله وروحه التعليمية الهادئة، فهو ليس بابا مواجهة وتحدّ كما عُرف عن البابا الراحل يوحنا بولس الثاني خصوصا في مواجهته للايديولوجيا الشيوعية بدءا من مسقط رأسه بولونيا. ثانيا، الرسالة الجامعة التي يحملها البابا وهو المدرك أن وقعها عند المسلمين سيكون نفسه عند المسيحيين وربما اكثر".

وبين الشرق الأوسط الخائف واللبنانيين المنتظرين أمل الحرية والسلام، يتحدّى الحبر الأعظم كل الظروف المحيطة التي وصفها الفاتيكان بـ "مناخ التوتر المتصاعد" ليكون لبنان نقطة الإنطلاق لكل حلحلة في قضايا الشرق الأوسط. وهكذا، وعلى امل أن يجترح خليفة بطرس الحلول، أعلن الناطق باسم الكرسي الرسولي ان "الاستعدادات للرحلة مستمرة بلا ادنى تردد من قبل الفاتيكان، كما أن تبعات الازمة السورية وما ترتب عليها من عمليات خطف في لبنان لن تؤثر على زيارة البابا." من جهته، وعلى الرغم من اطلاعه على كل مجريات الأحداث في لبنان، يحضّر رأس الكنيسة الكاثوليكية للزيارة متجاهلا المخاوف وما تتناقله الأنباء عن الأوضاع الصعبة في لبنان والمنطقة.

ولا بدّ من الإشارة الى أن قداسة البابا اختار لبنان لزيارته باسم كل دول المنطقة، ليقدّم منه الإرشاد الرسولي الجديد إلى أبناء هذه الدول. ولا شكّ أنه سيتطرّق الى موقف الكنيسة من الثورات العربية. المهمّ أن الزيارة ستكون تاريخية كما تصرّ عليها الدوائر الفاتيكانية من خلال حجم الوفد الذي سيرافق الحبر الأعظم، والتغطية الاعلامية الكبرى التي اطلقها الفاتيكان وستكون سابقة في تاريخ الزيارات البابوية. كذلك، ستتم الزيارة وفق تصوّره الاولي بحيث تكون زيارة دولة وزيارة رسولية وهي اعلى مراتب الزيارات التي يقوم بها البابا عادة تبعا للبروتوكول الفاتيكاني.

بعد أيام معدودة، سيحادث قداسة البابا اللبنانيين سياسيين ودينيين ومؤمنين عن قرب وسيوجّه رسائل من القصر الجمهوري الى مختلف الأطراف. هنا في لبنان سيلمس تعايش الأديان حينما يعيش مع اللبنانيين لثلاثة أيام. في العام 1997 بارك البابا الراحل يوحنا بولس الثاني أرض لبنان في زيارة تاريخية.. وأثناء تلك الحقبة من الزمن، كان لبنان يتعافى من محنة كبيرة فأدخله البابا التاريخ من بابه الواسع عندما قال عنه إنه "أكبر من وطن، وإنه رسالة للشرق كما للغرب في العيش الحر الكريم بين أبنائه مسلمين ومسيحيين". فهل تؤمن زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر للبنانيين سلاما وتحفظ لهم مرتع أحلامهم وتنقل الطمأنينة الى أبناء الجوار؟
  

السابق
عن تهديد الخليجيين في لبنان
التالي
لائحة الشرف للدولة اللبنانية